من دروس الكوليرا في الجزائر

من دروس الكوليرا في الجزائر

03 سبتمبر 2018

(عبدالله بن عنتر)

+ الخط -
انتاب النظام الجزائري خوفٌ شديدٌ غداة انطلاق شرارة الربيع العربي، ونجاحه في زعزعة عروش رؤساء، كان يُظن أنّهم في الحكم باقون، وفي رقاب المواطنين متحكّمون. وكان من إجراءاته لمنع تلك الشرارة حزمة من الموانع، منها تشديد قانون إنشاء الجمعيات، والذي صدر في العام 2012 منعا للمجتمع المدني من التمدّد، وتكوين تهديد/ خطر على بقاء النّظام على المديين، المتوسط والطّويل.
تحاول هذه المقالة الرّبط بين ذلك الإجراء السياسي وانتشار ثقافة سياسية من لدن النظام، من ناحية، ومن الجزائريين، من ناحية أخرى، مضمونها "اللامبالاة والتّجاهل المتبادل"، والتّي تولّدت منها عدة مظاهر، لعلّ أخطرها، على الإطلاق، ما ينعكس على الحياة اليومية للمواطن، ويشكّل مصدر خطر على صحّته، والتي كان للمجتمع المدني، من خلال تلك الجمعيات، نشاط ملحوظ في التّوعية، وتعويض النّقص الذي قد تتركه الدّولة، في ميادين التكفّل بالبيئة وبحياة الجزائريين، عموما. إنّها دروسٌ نستخلصها من داء الكوليرا، إن عرفنا كيف نتعامل معه، حقا، سيصبح، حتما، دواءً في المستقبل القريب.
الدرس الأوّل تاريخي، حيث أنّه، بالعودة إلى الأعوام الأولى لحراك الجزائر، في ثمانينيات القرن الماضي، يمكن القول إن قرارين كان لهما أشدّ الأثر على تجسيد الانفتاح والتحوّل إلى الديمقراطية، فتح الباب لإنشاء أحزاب سياسية وإقرار قانون بتحرير إجراءات إنشاء الجمعيات الأهلية، ما فتح الباب على مصراعيه لآلافٍ من الجمعيات، وفي كل الميادين، سمحت برفع وعي الجزائريين السياسي، ووسّعت من مجال حراكهم الاجتماعي، كما سمحت لهم بتعويض غياب الدولة عن بعض فضاءات حياة المواطنين، بفعل عوامل كثيرة، تتراوح بين سوء
البرمجة والتّخطيط، فشل السياسات العامة لكثير من قطاعات تدخّل الدّولة في تسيير حياة المواطنين اليومية وإدارتها، إضافة إلى غياب الكفاءة وانتشار سوء صرف المال العــام وتوجيهه إلى أداء خدمات للمجتمع.
أدّى العاملان، مجتمعيْن، إلى ميلاد ثقافةٍ سياسيةٍ، أداتها الجمعيات، بصفة أولية، مضمونها البعد الفعلي عن الدّولة، خصوصا أنّ ذلك تزامن مع فشل الأحزاب السياسية والنّظام، كليهما، في إدارة الشّأن السياسي، ووقوع قطيعة بينهما، تجسّدت في عشريّة حمراء، راح ضحيّتها عشرات آلاف من الجزائريين.
مع استمرار انغماس السّلطة والمعارضة، السياسية والعنفية، في احتلال الفضاء السياسي، وجد المجتمع في الجمعيات أداته الحيوية في تعويض غياب الدولة، وخصوصا أن العشرية المذكورة تركت بصماتها في البنية التحتية، وفي الحياة اليومية للمواطن، في كلّ مكان وعلى كلّ مستوى، حيث لعبت الجمعيات دورها الكامل في التّوعية، أداء الخدمات وملء فراغ غياب السياسة العامّة للدّولة.
من ناحية أخرى، كان للجمعيات دور في إبعاد المواطن عن الحياة السياسية، ما تولّد، على إثر ذلك كله، ثقافة سياسية مضمونها، باختصار "كل شيء إّلا الدولة"، وكان من تجسيداته الفعلية العزوف الانتخابي، وتعدّد أشكال الاحتجاج وامتداده إلى كل ربوع البلاد، من دون أن يكون لذلك حراك خلفية سياسية، ولعلّه كان لتزامن ذلك مع بداية الاهتمام بحيوية أداة وسائل الاتصال الاجتماعية الأثر الكبير في ازدياد حجم خوف السلطة من انعكاسات ذلك على معطى التحكّم في المجتمع، وفقدان آليتي التّوجيه وصنع الوعي.
يتمثل الدّرس الآخر في أهمّ المظاهر الفعلية والإيجابية لوجود تلك الجمعيات وعملها، حيث، وعلى الرّغم من الظروف الكارثية التي كان يعيشها المجتمع، لم يلاحظ في تسعينيات القرن الماضي، وفي أوج الأزمة الأمنية، ظهور أوبئة خطيرة. كما لم يكن أحد يسمع عن غياب الأدوية في المستشفيات، بل لم نسمع، أيضا، أن التكفّل بالمرضى يتمّ بجمع الأموال، وإرسالهم إلى الخارج للقيام بعمليات جراحية، ذلك أنّ الجمعيات كانت تتكفّل بحماية البيئة (المساعدة في جمع القمامات، مراقبة شبكات الصرف الصحي، والعناية بنظافة مياه السدود والأنهار)، كما كانت تتكفّل بتوفير الدواء (شبكة مجتمعية ضخمة من مواطنين متبرّعين، في الجزائر، وأخرى في الخارج، من المهجر ومن المتنقلين إلى الخارج، لشراء تلك الأدوية، وبالعملة الصعبة)، إضافة إلى قيام شبكة من الممارسين للصحة العمومية، من أطباء وممرّضين، بتخصيص أجزاء من وقتهم، لفتح الباب أمام التكفل بالحالات المرضية المستعصية.
درس ثالث، يمكن تقديم تفسيرات لقوّة ذلك المجتمع المدني، كما يمكن تقديم تفسيرات لغياب الدولة عن فضاءات كبيرة وكثيرة، وهل هو تخلّ عمدي أم فشل في التسيير؟ نجح المجتمع المدني في صنع الوعي وتفعيل وجوده، من خلال نخبة من الفاعلين، ضحّوا بأنفسهم من أجل تقديم خدمات للمجتمع، من دون خلفية سياسية، وكانت تقوم بالعمل بكلّ تفانٍ، وبكلّ احترافية، بحيث أن منظومة الخدمات كانت تسير بطريقةٍ يكاد المواطن لا يشعر معها بأنّه عايش عشريةً أمنيةً صعبةً، كادت أن تعصف بالبلد.
فشل الدّولة والنّخبة السياسية أدّيا إلى وعي المجتمع المدني بوجوب أن يرفع، وحده، تحدّي الاستمرار في الوجود، والسّماح بالخدمات الضرورية بالوصول إلى طالبيها. ومن فرط الوعي، قام ذلك المجتمع المدني، بذلك، في إطار منظّم من خلال مؤسّسات جمعوية، استغلّت الفضاء القانوني المسموح لها بالنشاط فيه لتسجيل وجودها، وتجسيد استمرار تقديم مستوى معيّن من الخدمات، وهو ما شهدت به التقارير الدولية لمؤشّرات التنمية البشريّة التي وضعت الجزائر، في أثناء السنوات الصعبة، في مستوى متوسط ومقبول، من دون أن يشير، واقعيا، إلى أن ذلك ما كان ليتمّ، لولا وجود جمعيات محلية، جهوية ووطنية، قامت بالعمل.
أمّا الدرس الرابع فله صلة بأساس الداء، فقد كان لأولّ حزمة من الإجراءات الهادفة إلى كبح جماح المجتمع من الوصول إلى صنع التغيير الأثر السيئ، في فترةٍ اتسمت بحراكٍ قوي على المستوى العربي، تضمّنت إصدار قانون (في 2012) ينتقم من المجتمع الذي حاول التكفّل بنفسه بعيدا عن الدّولة، من ناحية، ومنعا له، مستقبلا، من ناحية أخرى، من احتمال أن يعاود الحراك لشغل الفراغ والفشل في السياسة العامة، ما أكّد استمرار ثقافة الدولة السياسية في الوجود والمتضمنة للامبالاة والتجاهل للمجتمع بصفة تامة وشاملة.
إلى ماذا يؤدّي إقرار ذلك القانون؟ وهنا، يأتي تفسير أسباب تعمّد تخلّي الدّولة عن التكفّل بسياسة عامة مواطنية. تأتي الحقيقة الثّانية، هنا، بتأكيد أنّ ذلك تمّ بسبب استمرار الاعتقاد، في إطار الثّقافة السياسية للسّلطة، بأنّ "الريع" (شراء السلم الاجتماعي) كفيل بحلّ كلّ الإشكالات، والذي من مظاهره عدم الكفاءة المتعمّدة في تصوّر منظومة الخدمات، بالموازاة مع جعل ذلك فضاءً حصريا للدّولة، لاعتقاد السّلطة بأنّ ملء فراغ فشل/ غياب الدّولة في أداء الخدمات هو إشكالية وجود بالنّسبة لها، وبأنّ القطيعة مع ذلك الوضع لا يتمّ إلا بمنع الحراك المجتمعي، والذي كان يتمّ من خلال الجمعيات.
من نتائج ذلك القانون وصول المواطنين الجزائريين إلى يقينٍ باستحالة إنشاء المجتمعات، حيث وضعت العقبات الكثيرة أمام المترشّحين لتكوين جمعياتٍ، إنْ في الشكل وإن في المضمون، بالإضافة إلى صعوبة الحصول على تمويلات وجمع التبرعات، بل والتحرّك، إذ لا يمكن أن يتم ذلك كله إلاّ بتراخيص تقدمها السلطات العمومية، وهي إجراءات أصبحت صعبة المنال، وخصوصا في الفترة التالية عن "نجاة" الجزائر من عدوى "الربيع العربي".

أدّت الموانع السياسية والقانونية، وهو الدّرس الخامس والأهم، إلى تناقص عدد الجمعيات، وصعوبة التحرّك بالنّسبة لمن بقيت منها فاعلة، وهو ما أدّى، بالنتيجة، إلى تقليص فضاء انخراط المجتمع المدني في تأدية الخدمات وتقديمها، والقيام بتلك الفعاليات ذات الفائدة والمصلحة الأكيدتين. وكان ذلك بارزا في تزايد حالات الإعلان عن نقص الأدوية، وعدم التمكّن من التكفّل بالمرضى، إضافة إلى غياب عمل التوعية، وما يرافقه من حراك، في الميدان، وعلى أرض الواقع، للحفاظ على البيئة والتوعية بانعكاسات المساس ببعض الأساسيات الحيوية، وخصوصا في الموارد المائية ورفع القمامات والمساعدة على تدويرها.
كان لوسائل التّواصل الاجتماعي دورها في تعويض الموانع القانونية أمام إنشاء الجمعيات، أو العقبات، أمام تحرّكها، وفيها تجد التعليقات الخطيرة والصور البليغة عن الحالة المزرية التي وصلت إليها البيئة، في غياب تام للمجتمع المدني، وعدم تحرّك السلطة للقيام بدورها.
جاءت بداية المقالة على ثقافة سياسية متقابلة بمضامينها بين الجزائريين والسّلطة، وهي، بالنسبة لدروس الكوليرا، في الجزائر، مهمّة، إذ من خلال اللامبالاة والتجاهل، وهما وضعيتان سلبيّتان للبلاد، يمكن إدراك حجم الانعكاسات على الحياة اليومية للمواطن، والتي تحاول الحكومة، إمعانا في إقرار فشلها وتأكيد مواقفها في تشديد الموانع أمام المواطنين في كل الميادين، إلقاء مسؤولية تردّي الوضع على المواطن، وليس على نقص الخدمات، حيث أشارت ردود الفعل الرّسمية إلى وجوب توعية المواطن بالنظافة، ما يوحي بأن ثمّة تصميما على الإبقاء على الوضع كما هو، وليس السّعي للتعلّم من الكوليرا، باعتبارها درسا قاسيا، لإقرار تغييراتٍ جذريةٍ، أو إجراء تدقيقٍ للسياسة العامّة، والاعتراف بالمسؤوليّات، ولم لا، كما يجري في بلدان كثيرة، تحمّل تبعات الأوضاع والاستقالة، رسما لخريطة طريق، بمضمون ثقافة سياسية جديدة تفيد البلاد والجزائريين، على حدّ سواء.