حقوق الإنسان والسيادة والتدخل الأجنبي

حقوق الإنسان والسيادة والتدخل الأجنبي

12 اغسطس 2018
+ الخط -
يطرح الخلاف السعودي الكندي الذي اندلع أخيرا على خلفية النقد الذي وجهته كندا إلى المملكة العربية السعودية، فيما يتعلق بما تعتبره انتهاكاتٍ سعودية لحقوق الإنسان، وهو خلافٌ تسارعت تداعياته من خلال التصريحات والتصريحات المضادّة للبلدين، علاوة على الإجراءات التي اتخذتها السعودية، وهي إجراءات يراها عديدون لا تتناسب مع الموقف الكندي، فضلا عن أنها لم تعد الصيغة الأمثل في ظل عولمة قضايا عديدة، في مقدمتها قضية حقوق الإنسان، جملة من المعضلات الحقيقية. إذ إن ما يتعرّض له الإنسان من انتهاكاتٍ تنال من حقوقه تظل محل اهتمام المجموعة الدولية، خصوصا الضمائر الحية، بقطع النظر عن دينه أو لونه أو لغته أو حدوده. تلك هي بعض معاني كونية حقوق الإنسان، فأن تساند حقوق الأقليات البوذية في التيبت لا تقل سموّا عن مساندة حقوق الأقلية المسلمة في الفيليبين، أو أي مجموعة أخرى، وإن انتمت إلى الأغلبية الوطنية، إذا ما انتهكت حقوقها الأساسية، على غرار حرية التعبير والتفكير وحق التّجمع والتظاهر السلمي.. إلخ. منذ تسعينيات القرن الماضي، كانت عولمة حقوق الإنسان إحدى تعبيرات التعولم الشامل الذي شهدته البشرية في منعطف الألفية الثالثة: عولمة قضايا البيئة والمحيط، عولمة مكافحة الإرهاب.. إلخ. تعتقد البشرية أن قضايا عديدة أصبحت أو تكاد قضايا موحّدة، بقطع النظر عن الحدود الوطنية لتلك الدول التي تتوزّع عليها المجموعات البشرية المنتمية إلى وحدة جوهرية أصلية، هي الإنسان، بل إنه باسم شرعية حقوق الإنسان وعلويتها، أجيز في حالات عديدة التدخل السياسي، وحتى العسكري، وابتكرت 
البشرية محاكم تنطق باسم هذا الضمير الإنساني، على الرغم من أن مراقبين عديدين يصرّون على طرح ثلاث معضلات، ما زالت قائمة: موضوعية المعايير التي يتم اعتمادها باسم ذلك التدخل، بعد أن ثبتت ازدواجية المعايير تلك، على غرار ما يحدث من انتهاكاتٍ خطيرةٍ لحقوق الإنسان في فلسطين (حصار جائر، قتل خارج القانون...). معضلة السيادة الوطنية التي ترى أن مسألة "حقوق الإنسان"، حتى وإن تم التسليم بوجودها، أصلا هي مسألة وطنية تقع تحت سيادة الدولة، وتقديرها المطلق على قاعدة التشريعات الوطنية المعتمدة. وتظل المعضلة الثالثة والأخيرة متعلقةً بخصوصية/ كونية حقوق الإنسان وعلاقاتها الملتبسة أيضا بحقوق الشعوب.
اللافت للانتباه أن ردود أفعال أنظمتنا العربية، على ما يوجّه إليها من انتقاداتٍ في مجال حقوق الإنسان، وهي، في أحيان كثيرة، انتقادات ومؤاخذات مبنية على حقائق، عادةً تكون متوترةً وقائمةً على عنادٍ وصلفٍ كبيريْن، وفاقدة للإقناع، فالرأي العام العالمي، وهو يطلع على ما تنشره المنظمات الأممية والدولية، خصوصا في ظل عولمة المشهد الإعلامي، وما أتاحته تكنولوجيا الاتصال من إمكانات هائلة للاطلاع على تفاصيل ما يحدث داخل تلك البلدان في علاقة بملف حقوق الإنسان، يتطلع إلى معرفة الحقيقة، حتى يميّز بين الصواب والباطل فيها. ولكن حين يقف على ردود أفعالٍ متوتّرة، قائمةٍ على إجراءاتٍ هي أقرب إلى إجراءات انتقامية، يميل عادة إلى تصديق الروايات التي تقدمها تلك المنظمات التي تؤكد حدوث تلك الانتهاكات والتجاوزات.
على خلاف الردود المتوتّرة، تواجه الأنظمة الديموقراطية ما يوجه إليها من انتقاداتٍ متعلقة بحقوق الإنسان بكثير من الهدوء والرصانة والمهنية، لكنها قلما تنظر إليها باعتبارها تدخلا في شؤونها الداخلية، فلهذه الدول المناعة الكافية التي تجعلها لا تُصاب بالهلع، وهي تستمع إلى تلك المؤاخذات. صدرت مثلا عدة تقارير تدين تصرفاتٍ لتلك الدول في مجال حقوق الإنسان، ووجهت إلى الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا، مؤاخذات حادّة أحيانا فيما يتعلق بحقوق الأقليات، المهاجرين.. إلخ، وما زالت تقارير أممية، وبعض الجماعات والمنظمات الحقوقية، ذات الصيت الجيد، تشجب الولايات المتحدة الأميركية مثلا، فيما يتعلق بعقوبة الإعدام، وعديد من ممارسات إداراتها، فيما يتعلق بحقوق المهاجرين وبعض الأقليات (السود مثلا).
تأخذ هذه الدول تلك المؤاخذات، وحتى الاتهامات، مأخذ الجد أحيانا، ولكن ذلك لا يعني مطلقا أنها ستعمد إلى تغيير سياساتها بشكل جذري، ولكنها تحرص على تغيير صورتها، حتى تبدو أكثر انسجاما مع مُثل حقوق الإنسان التي تعتقد أنها معنيةٌ بتقديم نموذج مثالي عنها. وقد تتخذ الإجراءات المناسبة لوضع حدٍّ لتلك التجاوزات، على غرار محاكمات المسؤولين عنها، طرد من المسؤوليات، إقالات... أو للقيام بعمل إعلامي/ دعائي، من شأنه أن "يبرّر" تلك التجاوزات، ويعطيها أسبابا، بقطع النظر عن وجاهتها، حتى تعيد تلك البلدان تشكيل صورتها حتى تظل "المحترمة لحقوق الإنسان"، إذ أنها تعلم أن جزءا كبيرا من جاذبيتها قائم على تلك الصورة تحديدا.
ولكن كلما تعلق الأمر ببلدٍ عربي، وجهت إليه اتهاماتٌ، أو مؤاخذاتٌ بخرق حقوق الإنسان، سارعت تلك الدول إلى رفع لافتة السيادة الوطنية، وعدّت ذلك تدخلا سافرا في شؤونها الداخلية، في حين تعلم علم اليقين أن سيادتها الوطنية مستباحةٌ، في علاقةٍ بملفاتٍ لا صلة لها بملف حقوق الإنسان، فالقرار الوطني خطفته، منذ سنوات، لوبيات السياسة والمال العالميين. وتبيّن تصريحات ترامب وتغريداته حجم تبعية تلك البلدان، وافتقادها العديد من مقومات السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل في مواضيع كثيرة.
كان نظام زين العابدين بن علي، مثلا، وهو الذي جعل من حقوق الإنسان أحد مصادر شرعيته بروباغندا يحاول جاهدا أن يستمد منها القبول الدولي، فقد استطاع بن علي أن يخدع دولا كثيرة (وقد تكون تواطأت معه)، من خلال تلك المساحيق التي انتدب إليها خبراء الداخل والخارج، 
حتى بدا نظاما عصريا حداثيا، وأسس لجانا ووكالات وهيئات وجوائز، ما زال بعضها قائما، من أجل أن يبدو رائدا في احترام حقوق الإنسان في العالم العربي. اشترى من اشترى، وسخّر بعضهم، وأرهب آخرين، من أجل أن يرى الخارج تونس واحة للحداثة وحقوق الإنسان. ومع ذلك، علينا أن نتذكّر كيف استطاعت المعارضة سنة 2005 أن تستغل انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات، لتنطلق سلسلة من التحركات الاحتجاجية (إضرابات الجوع) التي لا أحد يجادل في أنها كانت بعضا من خمير الثورة التي قامت بعد خمس سنوات من ذلك، وكانت النتيجة أن جزءا من الرأي العالمي اقتنع بزيف ما يدّعيه النظام آنذاك.
لا أحد يستطيع أن يدحض ما توجّه له من اتهاماتٍ، تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان سوى مزيد من الانفتاح عن منظومة الحقوق، وتكريسها، خصوصا في مسائلها الأساسية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير والتجمع. لا يمكن أن نقنع العالم بتواصل "الاستثناء الإسلامي" القائم على نواة صلبة في ثقافتنا، تبرّر تلك الانتهاكات.
الخطوات المرتبكة والانتقائية لبعض الدول الإسلامية في مجال الحقوق، وغياب اجتهاد من داخل العقل الإسلامي التقليدي، يصالح ثقافتنا الإسلامية مع حقوق الإنسان هو الذي يعرّض بلداننا إلى انتقاداتٍ في جلها حقيقية، بقطع النظر عن ازدواجية المعايير المشار إليها سابقا. لا أحد يفهم مثلا لماذا هذا التنازل الذي يقدّم لفائدة النساء في السعودية "لحق" قيادة السيارة، في حين أن هناك حقوقا نسوية عديدة تظل أكثر إلحاحا. كيف يمكن أن نتحدّث عن هذا الحق في مطلع الألفية الثالثة، ونساء العالم يتطلعن إلى الجيل الرابع من حقوقهن، بعد أن اكتسبن، وبشكلٍ لا رجعة فيه، الأجيال السابقة من هذه الحقوق.
علينا أن نعترف أن أكثر نضالات نشطاء حقوق الإنسان داخل بلدانهم هي الضمان الوحيد لنيْل تلك الحقوق، بقطع النظر عن مواقف الدول الأجنبية، على الرغم من أهميتها. كلما سارعت بلداننا باحترام حقوق الإنسان عزّزت سيادتها الداخلية، وصلابة بنائها الوطني. ستهدأ العاصفة المندلعة الآن بين المملكة العربية السعودية وكندا، ولكن العالم استفاق على مشكلة حقوق الإنسان في المملكة، على وقع هذا الصخب المرتفع حاليا.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.