الأوغاد الجدد

الأوغاد الجدد

05 يوليو 2018
+ الخط -
يؤكد عنوان "الأوغاد" لمقالة الصديق فهمي جدعان في "العربي الجديد" (18/05/2018) أن العناوين تكون أحياناً كافية لمواجهة خصمٍ أو موقفٍ، أو التصدّي لخياراتٍ تتم فيها الاستهانة بتاريخ أو قضية محدَّدة، كما هو الحال في مقالة الرأي هذه، حيث يشير الكاتب إلى عينة من صور استخفاف بعض المثقفين واستهانتهم بالرصيد النضالي الفلسطيني والعربي في موضوع القضية الفلسطينية.
لم يكن هدف الكاتب بحث مواقف من تصدَّى لهم، أو مناقشتها، وأبحاثه المنجزَة والمتواصلة منذ عقود، في مجالات اهتمامه الفكري، تُعَدُّ خير شاهدٍ على مآثره النظرية في الفكر العربي المعاصر. ونتصوَّر أن الفقرات التي أنشأ وركَّب بعناية في مقالته، للتمثيل على من يشير إليهم نعت الأوغاد، وإن كانت تفي بجوانب من الهدف المراد منها، إلا أن عناصر قوتها المكثفة تملأ صفحاتٍ عديدةً عن حالات أخرى، مُماثِلة لمن ذكر. وفي هذه النقطة بالذات، تتمركز قوة الرأي المعبِّر عنه في بعده المباشر، وسط مشهد إعلامي ثقافي سياسي، يُنذر بتراجعاتٍ لا تعير أدنى اهتمام لمقتضيات الصراع الجارية اليوم بحدّةٍ وشراسةٍ في عالمنا، وهي لا تفكّر لا في التحولات التي يعرفها الشأن الفلسطيني، ولا يعنيها أمر الحاضر والمستقبل العربيين.
وتزداد أهمية (وقوة) عنوان مماثل لما هذه السطور بصدده، عند تبيُّن تكاثر الأوغاد في السنوات الأخيرة، وارتفاع درجة وَلَعِهِم بكل ما هو مُعَادٍ للتاريخ والقيم في مجتمعاتنا. فقد تكاثر الأوغاد وملأوا الأمكنة، وحملوا رايات الهباء.. ولم يعد أمر مواجهتهم يتطلب أكثر من النطق بكلمةٍ واحدةٍ تحمل، بين ثنايا ملفوظاتها، ما يعبر بقوةٍ عن السخط والغيظ من درجات تخليهم عن المبادئ ودرجات استباحتهم القيم التاريخية، الصانعة جدارة الإنسان في الوجود وفي التاريخ.
يكون العنوان، في بعض المقالات، كافياً لجذب القارئ واستمالته ليتابع القراءة، حيث يولِّد
المخزون الإيحائي الذي يفيض عنه ما يدفع إلى كتابة مقالاتٍ أخرى، أو الانخراط في عمليات إسناده، بالروح نفسها.
استعان الكاتب، في مطلع مقالته، بلسان العرب، لِيُذَكِّرَ القراء بالحمولة الدلالية للمفردة، ويضعهم في السياق العام لما يُوَجِّه النَّظر صَوْبَه. ولأنه يعي جيداً دلالات مفردة وغد، ويسمع رنين أحرفها في أذنيه، كما يعرف كثيراً من الإيحاءات المقترنة بها في ذاكرة الناطقين بها وبأسرارها، فقد تسرَّبت إيحاءاتُ المفردة إلى مختلف فقرات المقال. إلا أنني، إضافة إلى كل ما لمّحت إليه، أريد أن أضيف، إلى الأسطر الأولى في مقالته، أمراً آخر لم يرد فيها، أريد أن أضيف معطياتٍ استأنست فيها بتخيلي حديثا دار بيني وبينه عن الأوغاد، حيث ردَّدَ الكلمة على مسمعي مراتٍ عديدة، محملاً النطق بها عاصفةً من حنقه المتطاير.. فتبيَّنت عمق انفعاله، على الرغم من أنني أعرف هدوءه وحسن تقديره في العادة، لأمورٍ كثيرةٍ تملأ حياتنا صخباً وقَرفاً.
تشير قوة مفردة العنوان في صيغة الجمع التي وردت بها إلى موقف وإرادة، موقِف من خيارات سياسية وثقافية لا ذاكرة لها، وإرادة بدون أفقٍ، لا في السياسة ولا في التاريخ، فالأوغاد بدون ذاكرة ولا أفق.. ومواقفهم تتسم بالخسَّة والدناءة. ولا ينتظر الكاتب منهم انتصاراً لقضيةٍ عادلة، فهو يرى في أعمالهم ما يؤشّر إلى خياراتٍ معاديةٍ للقضية.. ولا يمكن أن تُنتظر ممن باعوا أنفسهم من دون ثمن أعمال تمنح القضية المعاني التي حملتها وتحملها كتجربة في التحرّر، تَكَالَب عليها الأعداء والأوغاد من كل صنف، ومن كل جانب.
لن نهتم هنا بعرض ما أورد الكاتب من معطيات، عن مواقف الأوغاد من القضية ومن الثقافة 
العربية. وإذا كنا نعرف أن القضية الفلسطينية تعرف، في السنوات الأخيرة، أشكالاً من الانكفاء والتراجع، بحكم جملةٍ من الشروط السياسية الذاتية والموضوعية، وبحكم الجرائم المتواصلة للكيان الصهيوني، وكذلك بفعل الانفجارات السياسية التي عرفتها بلدان عربية كثيرة في السنوات الأخيرة، ومن دون إغفال التداعيات المترتبة من اتفاقياتٍ للسلام التي حولت معارك الفلسطينيين في التحرّر والتحرير، إلى مجرد آلية في الحكم الذاتي بمهمةٍ واحدة، ضمان أمن إسرائيل وتسهيل عمليات تمرير إجراءات استيطانها الأرض، مقابل اتفاقاتٍ لا تقبل لا عودة اللاجئين، ولا تحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل بعد هزيمة 1967، ولا أن تكون القدس عاصمة فلسطين.
يواصل الأوغاد الجدد في الراهن العربي، بخيباته التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تقاليد الذين سبقوهم. إنهم يتنكرون مثلهم، وبخفةٍ لا مثيل لها، لكل المبادئ التي ناضل الفلسطينيون من أجل أن تظل عنواناً ملازماً لقضيتهم، وشعاراً مُوَلِّداً لأفق تحركهم النضالي، الهادف أساساً إلى تحرير أرضهم، وبناء دولتهم المستقلة.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".