مواسم الهجاء وطلب الاعتذارات وعرض المبادرات

مواسم الهجاء وطلب الاعتذارات وعرض المبادرات

20 يوليو 2018
+ الخط -
كلما اقترب "الثلاثون من يونيو"، وما تبعه من مآسٍ تتعلق بالانقلاب العسكري في مصر، والذي اتخذ مما حدث في ذلك اليوم غطاء سياسيا وشعبيا لشرعنة انقلاب العسكر، وكلما اقتربت بوادر زلزالٍ يتعلق بالإنسانية، تمثل في طلب قائد الانقلاب التفويض لمواجهة ما سماه الإرهاب المحتمل الذي أدى، بعد ذلك، إلى أوضاعٍ لا تحتمل، والذي أوصل إلى مجازر هنا وهناك، تمثلت في ميدان رابعة العدوية وأخواته، وما سبقها وما لحقها، شكل كل ذلك جملةً من الزلازل والتوابع المتتالية والمتراكمة التي تركت شعب مصر غير الشعب الذي شكل ظهيرا لثورة 25 من يناير، وبدت الأمور تتطور، بحيث توطدت أركان نظام فاشي، ودولة بوليسية قامت بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى خراب البلاد وظلم العباد. وكلما هلت علينا تلك الأيام، برزت المساجلات، وبدأ الجميع يمارس هجاء متبادلا، فهذا يذكّر ذاك بأخطائه، بل وخطاياه، وهذا يؤكد أن تلك الخطايا التي ارتكبتها قوة من القوى السياسية، أو المجتمعية، هي خطايا لا تغتفر، لا تقبل فيها التوبة، على حسب تعبير بعضهم الذي بات هذا السجال حرفة بين هؤلاء، يتشاتمون ويلقون التهم على بعضهم بعضا في إطار بيئة من الاستقطاب والاستبعاد، فتؤدي هذه الحال مع تراكمها إلى مزيد من فرقة وتشرذم، ويقع الجميع تحت مطارق الاستعباد. أحوال تتوالد، وخطاب يتكرّر. وفي كل مرة يقع ضحايا كثيرون، ويظل المستبد  متكئا على كرسي سلطانه وطغيانه، يمكّن لنفسه، ويستند إلى زبانيته وإعلام إفكه، مستخفا بشعبه، فالعرض مستمر، والأمر في حال طغيانه مستقر.
تهبّ في هذه المواسم مطالباتٌ ربما باتفاق، وربما بغير اتفاق، فتتحول من حال الهجاء إلى 
حال مطالب بالاعتذار، وإلى تذكير بتلك الخطايا، كل منهم يركز على توقيتٍ بعينه، ويركز عليه بؤرة اهتمامه وممارسات هجائه، ويعاير بعضهم بعضا، ويشمتون ويشتمون من غير حد أو قيد. يأتي هذا كله في محاولة لإيقاف عجلة الزمن، وكأنها وقفت عند حدث معينٍ، أو موقف بعينه، أو قول ورد على لسان أحد منهم، ويتبارى الجميع في تبادل الاتهام والهجاء. في هذا الوقت، تتراكم المطالبات، وطلب الاعتذارات من فصيل بعينه، بل ويجد بعضهم أن الحل في "الحل" وكل هؤلاء يتناسون أن حال الاستقطاب الذي عانوا منه، وأدى بنا إلى ما أدى، لا يزال يتمكّن من النفوس والعقول، بحيث يتزايد الاتهام والتشاتم، ولا يتوقف عند حد، فإذا قال أحدهم إن هذا الوضع هو الذي يمَكن لطغيان المستبد وحالة الاستعباد، وأنه يوطد لبيئة الاستبداد والاستخفاف والاستقطاب، وخطاب يصل إلى حد الإسفاف، ويحرّك كل المآسي التي تتعلق بماضٍ قريب، وتصادر أي أمل في مستقبلٍ، تتحرك فيه كل مصادر المقاومة لتلك الحالة الانقلابية الفاشية.
بات ذلك كله طقسا سنويا موسميا، يحرك كل الأغراض التي تتعلق بالذم والهجاء في معركة صفرية غريبة بين الرفقاء في ميدان الثورة. وبدلا من مواجهة المستبد، أو مطالبته، يتحرّك الجميع في مطالباتٍ هنا أو هناك، مقترحا ما يتصور أنه الصواب، لكنه في النهاية يمارس كل ما من شأنه يحرّك الفرقة والشقاق والانشقاق، ويؤمن المستبد بزبانيته ويرتع، فإن هؤلاء الذين اختصموا وتخاصموا نسوا، في غمرة الانشغال بهجاء بعضهم بعضا من هو الخصم والعدو الذي يفتك بهم جميعا، ويجمعهم في الزنازين؛ متناسين كل تلك العوامل والمظاهر التي جمعتهم في الميادين.
لا المُطالب بالاعتذار يتأمل في أخطائه التي ارتكبها، ولا المُطالب بالحل يتعرف على قوانين الحركات الاجتماعية التي لا يمكنها بأي حال أن تحل نفسها، مع وجود قواعد لها، حتى لو استُهدفت، فكيف يمكن لحركةٍ اجتماعيةٍ نشأت وتطورت، وبقيت في المجتمع فترة تزيد عن الثمانين عاما، ثم بعد ذلك يطالبها بعضهم، بحل نفسها كأنها تملك هذا القرار، على الرغم من أن المستبد صار في مأمن في إطار استمرار الخلاف والتنازع فيما بين الرفقاء الذين صاروا فرقاء. وهناك أيضا من يطالب باعتزالهم العمل السياسي عقدا أو أكثر. وهناك من يطالبهم في مناخ من الضغوط بفصل الدعوي عن السياسي، وأمور كثيرة هنا وهناك، أصبحت تثار تحت مطارق هذه الأيام، وضغوط الاستقطاب والاستبداد جميعا، التي احترفوا فيها مواسم الهجاء، ولم يمارس هؤلاء أي حالةٍ من نقد ذاتي حقيقي، ومراجعات فكرية، وممارسة اعتذار حقيقي للشعب لا للغير، فلا الإخوان المسلمون يعتذرون لتيار مدني، ولا التيار المدني يعتذر للإخوان، بل على هؤلاء أن يعتذروا لهذا الشعب. وبدلا من ذلك، يمارس الجميع حفلات الهجاء على هذا الشعب، واتهامه بأنه شعبٌ عبد، فاقد الوعي، وواهن الإرادة، وغير قادر على الفعل.
إنها حال مركبة من الوهن والهوان، تقدم أفضل بيئة للاستخفاف واستمرارية الاستقطاب، وقد لا يتوقف الأمر عند حد الهجاء أو التراشق والتنازع، بل صار بعضهم يسبّ كل من نادى بالتوافق أو الاصطفاف، لا لشيء إلا أنهم لا يرغبون في مواجهةٍ حقيقيةٍ مع هذا المستبد، فيستنفدون قدراتهم في تلك المعارك الكلامية، ولا يقومون بأي حالةٍ تتعلق بمواجهة هذا الانقلاب، وكل ما يقترفه في حق البلاد والعباد من تخريبٍ وقتلٍ للنفوس، واعتقال وخطف وتصفية جسدية. يرتكب ذلك كله وهو في مأمن من أي عمل يواجه ذلك، بل إننا لم نعد نرى من فاعليةٍ تتحدث عن تلك الظواهر سوى من تقارير دولية من منظماتٍ غير حكومية، وصارت الشعوبية التي تتعلق بكل فريق، والتي تطالب بحقوق كل من يتبعه في الأيديولوجيا أو في الموقف. وتناسى كل هؤلاء أن للإنسان حقوقا تسبق كل انتماء، خصوصا حينما يتعلق الأمر بحق الحياة والبقاء، وأمور تتعلق بالدماء.
وهنا يخرج بعضهم علينا بحديث المبادرات والمطالبات، وينتظر من فصيلٍ بعينه أن يرد، ولا يتحرّك صوب الاستبداد وسياساته والطاغية، وما يرتكبه من جرائم في حق هذا الشعب 
والوطن. ولا يتحدث أحد عن حقيقة تتعلق بالمحاسبة، وتحقيق استراتيجية تؤكد على العدالة الانتقالية. وفي كل مرة، ستذهب الأيام ويبقى كل على حاله، ويبقى كل طرفٍ على مواقفه، لا يتحرّك قيد أنملة، إلا إلى مزيد من فرقة أو شقاق، ولا يتعامل مع حقائق واقعٍ، آن الأوان أن نتدبر جملة اعتباراته ومعطياته، بل وإكراهاته ضمن مشروعٍ لمواجهة هذه الحالة الانقلابية الفاشية، وما قامت به من أفعالٍ، تتعلق بتخريب هذا الوطن، وضرب مصالحه الأساسية في مقتل، واستمرارية استراتيجياته التي تتعلق بالتجويع والترويع، في إطار الحفاظ على حالة القطيع، فلا المبادرات تملك قوةً، ولا المطالبة بالاعتذارات تصنع حالةً، بل هم أقرب ما يكونون إلى حالٍ من الاقتتال. وصارت الجماعة الوطنية  ولحمتها وتماسكها في خبر كان، لا تجد لها من مكان. وبعد ذلك، ينفض السامر، وينتظر بعضهم موسم اقتتال قادم، وتظل الأمور تتفاقم، وكرامة المواطن تهدر، ومكانة الوطن تفقد، وأرض الوطن تباع، ونحن لا نحترف إلا النزاع. أما آن الأوان أن نخرج من حالة هذا الطقس الموسمي، والهجاء المتبادل، إلى حال نتبصّر فيه معنى الوطن ومصالحه، ومعنى المواطن ومعايشه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".