الغضب الصامت

الغضب الصامت

30 يونيو 2018
+ الخط -
قبل أيام، فوجئ سكان الشارع الذي أقطن فيه، والمارّة والباعة وأصحاب المحلات، بصراخ شديد ومتتابع، يصدر من سيدةٍ شابةٍ أنيقةٍ وميسورة الحال، كما يبدو من لباسها، تمشي في الشارع، وتصرخ بصوت عال، من دون أن تهتم بالجموع المذهولة من سلوكها، ولا بالتعليقات التي كانت تصدر من شخص أو آخر، كانت تتابع سيرَها وهي تصرخ، وتقول كلاما غير مفهوم، لم يكن يبدو على السيدة أنها تعاني من مشكلةٍ عقليةٍ، لا يحمل شكلها صفات (المجانين) المتعارف عليها في بلادنا، لكنها بالتأكيد كانت تختزن مقدارا كبيرا ومتراكما من الغضب، أدّى بها إلى أن تسلك هذا السلوك العلني، من دون الاكتراث بأحد. اللافت كان ردود أفعال الناس الذين يسمعون صراخها، معظم التعليقات كانت تقول بما معناه: "ليتنا نجرؤ على الصراخ مثلها"، أو "سنصبح قريبا جموعا من الصارخين في الشوارع"، أو "دعوها تصرخ كما تشاء كي لا تموت من القهر"، كنت أنا أيضا من القائلين "هنيئا لها، ليتني أستطيع أن أفعل مثلها"!
لم تكن ردود الأفعال تلك تعاطفا معها هي، بقدر ما كانت تعاطفا شخصيا، كل مع نفسه، فنحن، شعوب هذه المنطقة المنكوبة، نراكم القهر والغضب منذ عقود طويلة، ولا يسمح لنا حتى بالاحتجاج الفردي، وليس الجمعي فقط، كان الربيع العربي الفرصة الأولى والوحيدة لنا للتعبير عن الغضب، وإخراج المكتوم من سنوات القهر الطويلة، ليس فقط أن الأنظمة ومواليها ومافيات العالم الحاكمة قد أجهضته، بل حوّلته إلى دمٍ وموتٍ وتشرّد وذل وقهر مضاف. تحول الربيع إلى مقبرة متنقلة ومفتوحة، وتحوّل أصحابه وشبابه إلى ترابٍ يجر ترابا، أو يأكل نفسه، فحيث لا يوجد موت يوجد فقرٌ مضاف، ويوجد تجهيلٌ مضاف، ويوجد إقصاءٌ وقمعٌ مضاف.. هل يخلو بلد عربي واحد من هذا القهر؟ هل ثمة مواطن عربي، عدا أبناء الطبقات المرتبطة بالأنظمة، لا يكاد يموت من اليأس وانسداد الأفق، والخوف من القادم المجهول؟ انظروا إلى الخطاب العنيف على مواقع التواصل الاجتماعي لدى أي اختلاف أو خلاف. احصوا عدد الجرائم الفردية لأسبابٍ تافهة. احصوا عدد الشباب العرب المنتحرين، أو المدمنين على المخدرات حد الانتحار. اليأس والخوف والقهر المستديم يراكم طبقاتٍ من الغضب في النفس البشرية، ستتحول إلى أداة عنفية ضد الذات، أو ضد الآخرين، إن لم يتم تفريغ هذا الغضب بشكل صحي، أو في مكانه الصحيح.
وعلى الرغم من أن الغضب يصنف في علم النفس فعلا سلبيا، فإن التسطيح، وانعدام رد الفعل تجاه الحدث المباشر، هما سلبيان أيضا، فالغضب جزءٌ من تكوين الكائنات الحية، حتى الحيوانات تشعر به لحظة الخطر أو الجوع، وتُصدر أصواتا، أو تقوم بحركاتٍ في أجسادها، تعبر عن غضبها في هذه اللحظة، برد فعل غريزي مشابهٍ لرد الفعل البشري، في المجتمعات الصحية. يصبح الغضب فعلا صحيا، يكشف مواقف البشر تجاه الأحداث الشخصية والعامة، وحتى حين تتجاوز كميته الحد الطبيعي، فإن هناك مؤسسات ومختصين يديرون هذا الغضب، ويساعدون صاحبه على توجيهه في المكان الصحيح.
يمكن الاحتجاج، في المجتمعات الصحية، على أي شيء في أي مكان وبكل حرية، لن يصبح الغضب مكبوتا، فيتحول إلى قنبلةٍ قد تنفجر في أي لحظة. في مجتمعاتنا ودولنا المريضة نصبح نحن مرضى به، ويتحول غضبنا إلى عنفٍ خالصٍ ترفده الأنظمة بالمزيد، فنفقد معه كل شيء، ونخسر كل شيء من دون أن نتخلص من كتلته داخلنا، بل نراها تزداد وتشتد صلابة، إذ هناك دائما ما يغذّيها، فتنتشر كالعدوى، وتعمم على الجميع، بحيث نصبح غير قادرين على الفعل، يعيقنا الغضب عن كل شيء معافى، يصبح فرحنا مريضا وحزننا مريضا واحتجاجنا مريضا وعلاقاتنا مريضة، نصبح أشكالا مختلفة من الغضب المكبوت، تتحرّك في الشوارع، وفي الحياة اليومية.
هناك قولٌ يُنسب إلى أبي ذر الغفاري: "عجبت لمن لا يجد قوت بيته، كيف لا يخرج شاهرا سيفه"، وفيه حضٌّ صريحٌ على الخروج والإفراج عن الغضب المكبوت، بسبب الفقر والجوع عبر الثورة. كان أبو ذر يعرف جيدا أن الغضب الذي يسبّبه الجوع يمكنه أن يخلق ثورةً من الرماد. لعل هناك من يتعظ، وينتبه إلى الغضب الذي يتكوّم كجبل بركاني سينفجر ثانيةً في أي لحظة.
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.