الزمن ولغة الموت

12 نوفمبر 2016

(سمعان خوّام)

+ الخط -

في حوار لي مع الشاعر الأميركي (من أصل صربي) تشارلز سيميك، نشر، أخيراً، في "ضفة ثالثة"، يقول إنه حين قدم إلى أميركا كان عاشقا للأدب الأميركي، ولم يكن يتخيّل أن يكون يوماً شاعراً أميركياً، ومن أجل ذلك، هو "مدين بالشكر إلى هتلر وستالين"، فلولا حربهما المجنونة لما هاجرت أسرته إلى أميركا، ولما أصبح شاعرا أميركياً. وعلى الرغم من أن السخرية من هتلر وستالين واضحة في الإجابة، فإن أصدقاء كتاباً سوريين أرسلوا لي يستفسرون عن هذه الجملة تحديدا، ما إذا كانت دقيقة الترجمة، ففي رأيهم إنه لا يجوز لشاعرٍ، مثل تشارلز سيميك، أن يقول هذا، حتى في سياق السخرية. وعقد  صديق مقارنةً مع وضع الكتاب السوريين الحالي قائلا: هل يحق لأي شاعر سوري اليوم أن يشكر بشار الأسد ، ولو على قبيل الدعابة، أنه أصبح شاعرا ألمانيا مثلا؟ أليس في هذا الشكر انحيازاً، ولو خفياً، للفاشية؟ لم أتابع النقاش طويلا مع الأصدقاء السائلين، ولكنني رأيت أن موضوعاً كهذا جدير بالطرح الآن، في هذا الوقت تحديداً، حيث  تصبح بعض الأسئلة والأسئلة المضادة مشروعة، في سياق ما يحصل في العالم، وفي سورية خصوصاً، فلو افترضنا أن سيميك كان جادّا في جملته هذه، لو أنه كان حقاً يشكر هتلر وستالين، لأنهما أتاحا له فرصة أن يصبح شاعراً أميركياً، كما كان يحلم، هل يحق لنا محاكمته على ذلك؟ وهل يمكن فعلا مقارنة وضعه بوضع  أي شاعرٍ أو كاتب سوري غادر سورية، ليعيش في المنفى في السنوات الخمس الماضية؟

ذهب سيميك مع عائلته إلى الولايات المتحدة وهو صغير، لم يكن يعرف معنى أن يكون شاعرا أصلا، تفتّح وعيه في الولايات المتحدة، تعلم اللغة الأميركية/ الانكليزية وهو صغير. حين بدأ بالكتابة، كتب بالإنكليزية، لا بلغته الأم، طفولته وسياق حياته كلها جعلا منه كاتباً أميركياً من أصولٍ أخرى، يفصله الآن عن الحرب العالمية الثانية التي جعلت عائلته تهاجر إلى أميركا نحو السبعين عاماً، لا يمكن لرؤيته الحالية للتاريخ والزمن أن تكون مشابهةً لرؤية شاب ثلاثيني، أو لشخص أربعيني، نجا بنفسه من براثن الموت، حتى لو كان هذا الشخص مبدعاً، بل ربما من غير المنطق أن يحملا الرؤية نفسها، فأيُّ كاتبٍ هاربٍ من الموت اليوم، لجأ إلى بلادٍ بثقافةٍ جديدةٍ، وهو محمل بثقافته كلها، لغة وذاكرة وتفاصيل شكلت وعيه بالكامل، ومطلوب منه الإندماج، وتعلم لغة المجتع الجديد الذي ذهب إليه. حين يكتب يكتب بلغته الأم، وحين يفكر ويناقش يستخدم اللغة نفسها التي يتخذ بها موقفا سياسياً وثقافياً وأخلاقياً.

وجوده في مجتمع جديد لا يجعل منه كاتباً فرنسيا مثلاً، أو هولنديا أو تركيا. اللغة فقط هي ما يجعله هكذا، اللغة بكل مفاصلها، أن تترجم أعماله إلى لغة البلد الذي يعيش فيه أيضاً لا يجعل منه كاتباً ينتمي إلى هذا البلد أو ذاك، سيبقى كاتباً سورياً يعيش في الغرب طالما لم يحصل على الجنسية، وطالما ما زال يكتب بلغته الأم، ويستخدمها في التفكير والإدراك، كما أن محاكمته الفاشية والاستبداد والإجرام هي مثقلةٌ بكل الموت الذي رآه بأم عينه، محاكمة فعلاً لا تقبل المزاح ولا الالتباس. ولكن، لنتخيل ما الذي يمكن أن يقوله طفل سوري صغير هرب مع عائلته إلى السويد مثلاً، وتفتح وعيه  فيها، وتمكّن من لغتها وحمل جنسيتها، وأصبح كاتباً سويدياً من أصل سوري. لنتخيل ما الذي يمكن أن يقوله هذا الكاتب المفترض بعد أربعين أو خمسين عاماً عن بشار الأسد؟ هل سيكون رأيه مشابهاً لحدية آرائنا وجذريتها الآن؟ أظن أن الجواب سيكون: لا، لن تكون ذاكرته مثقلةً بلغة الموت، مثل ذكراتنا الآن، ومثل لغتنا. لا يرث الأطفال لغة الموت من أهلهم، سيحملون لغةً جديدة، سيكون للموت خيوط رفيعة فيها تذكّر بالأصول الأولى، أظن هذا تماماً ما حصل مع سيميك.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.