اضطراب الاكتناز والماضي

اضطراب الاكتناز والماضي

09 مارس 2024

(خوان غريس)

+ الخط -

اضطراب التخزين القهري، أو اضطراب الاكتناز، مرض نفسي يجد صاحبُه صعوبة بالغة في التخلّص من المقتنيات التي لديه، أو التخلّي عنها بسبب الظنّ الدائم أنه سيحتاجها بعد حين، ويُصاب صاحبه بالضيق والتوتّر حين يفكّر بضرورة التخلّص من بعض مقتنياته، أو حين يُجبره أحدٌ على فعل ذلك؛ وغالباً ما يعيش صاحب هذا الاضطراب في مكانٍ مكتظٍّ تماما ومليء بالفوضى، بحيث يصعُب على أحدٍ مشاركته المكان أو زيارته، فالمكان لا يتّسع لأي شخص ولا لأي أحدٍ سوى مريض الاكتناز ومقتنياته وفوضاه.

ولاضطراب الاكتناز درجاتٌ عديدةٌ تختلف بين مريض وآخر، فبعض المصابين به يحتفظون بمقتنياتٍ ترتبط بمناسباتٍ معينة، مثل مقتنياتٍ اشتروها من أماكن زاروها في فترات حياتهم، ورغم عدم احتياجهم لها أو عدم صلاحيّتها للاستخدام أو العرض، فمع ذلك لا يمكن لهم التخلّي عنها أو إرسالها إلى سلّة المهملات، فهي بالنسبة لهم كمن يلقي بذكرياته في سلّة المهملات؛ ومنهم من يحتفظ بملابس وأشياء أولاده منذ لحظة ولادتهم، فتراهم يخبئونها كما لو أنها كنز يخشون فقدانه؛ ومنهم من يحتفظ بمقتنيات عائلته فيعيش وسط كمية مهولة من مقتنيات وأوراق وثياب تعود إلى والديْه أو جدّيه، وسيشعر حين يطالب بالتخلي عنها كما لو أنه يتخلّى عن والديه وعن ماضيه وحياته الأولى كلها. وهناك من يحتفظ بكل شيءٍ يخصّ حياته، سواء الحالية مع الزوج أو الزوجة والأبناء، أو حياته الأولى مع والديْه وجدّيه وإخوته، فيعيش هذا الشخص وسط كمياتٍ مهولةٍ من الفوضى والقمامة، رافضا التخلّي عن أي شيءٍ منها، ورافضا الاعتراف بأنه مريض نفسي ويحتاج علاجاً ينقذه مما هو فيه؛ وهناك من يحتفظ بعدد كبير جدا من الحيوانات الأليفة في منزله، من دون أن يتمكّن من تقديم الرعاية اللازمة لها.

أما المستوى الأخطر من مستويات هذا الاضطراب، رغم ندرته، لكن حالاتٍ كثيرة رصدت منه عبر التاريخ البشري، وهو المستوى الذي يعيش فيه المُصاب مع جثة شخصٍ كان يعيش معه ومات لسبب أو لآخر. يحتفظ هؤلاء بالجثث في منازلهم، وسط الفوضى التي يعيشون فيها، منهم من يترك الجثة لتتحلّل بشكلها الطبيعي، ومنهم من يقوم بتحنيطها والاحتفاظ بها والتصرّف كما لو أن صاحبها ما زال علي قيد الحياة، وطبعا لا أحد يعرف ما الذي حصل، فغالباً تعيش هذه النوعية من المضطربين بمعزل عن الآخرين، فهم غير قادرين على التواصل الاجتماعي، ويعانون من تشتّت عاطفي وسلوكي ومعرفي يعيقهم عن التواصل الاجتماعي، وغالبا من كانوا يعيشون معهم تطبّعوا بطباعهم، وأصبحوا مثلهم مكتفين بالفوضى التي يعيشون فيها.

في كتابها المهم "عبودية الكراكيب"، تؤكّد البريطانية كارل كينجستون أن ما يشاع عن أن زمن العبودية قد انتهى محض خلط، فالبشر تستعبدهم كراكيبهم وأشياؤهم، يستعبدهم حبّ الاقتناء والملكية، تستعبدهم التفاصيل التي لا تنتج سوى فوضى كبرى تنعكس حتى على السلوك وآلية التفكير وإدارة الحياة. وللتخلص من هذا الاستعباد، علينا البدء بالتخلّي عن كل ما نظن أنه قيم وأننا لا نستطيع العيش من دونه. التخلي عن الكراكيب التي تحيط بحياتنا ويمنع عنها الطاقة الإيجابية. لكن هذه الكراكيب ليست فقط المقتنيات والأشياء والحوائج، بل الرغبة في اقتنائها تندرج ضمن الكراكيب؛ الماضي أيضا يندرج ضمن الكراكيب، ماضينا الشخصي الذي لا نستطيع الانفصال عنه، بحيث يصبح الأجمل في حياتنا هو الماضي والأكثر بهجةً هو الماضي والأثمن هو الماضي، بحيث يصبح الحاضر الذي نعيش فيه عديم النفع، ولا يستحقّ العيش لأجله؛ هكذا نظلّ عبيداً لكراكيب الماضي التي تعيقنا عن ترتيب حاضرنا.

والحال إن اضطراب الاكتناز يوجد في كلٍّ منا بدرجة من الدرجات، نادرون أولئك الذين يستطيعون التخلّي عما يحبّون أو التخلّي عما يملكونه، فالرغبة بالامتلاك هي فرع من فروع اضطراب الاكتناز، وكلما زادت ملكيات الشخص أصبح أكثر تعلّقاً بما لديه وأكثر رغبةً في امتلاك المزيد. يمنح الاكتناز صاحبه الشعور بالأمان العاطفي، وهو ما يشعر به أيضا الذين لا يستطيعون الانفصال عن ماضيهم وعيش حياتهم الراهنة. يتحوّل الماضي لديهم إلى جثّة تعيش معهم، متحلّلة ولم يبق منها سوى هيكلها العظمي، لكن وجودََها في حياتهم يمدّهم بالطمأنينة والاستقرار العاطفي والأمان.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.