التّحدّي المقبل لمغرب عربي ضعيف

التّحدّي المقبل لمغرب عربي ضعيف

29 يونيو 2018
+ الخط -
برز إلى السّطح، أخيرا، جدال كبير أبان عن وجه قبيح لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، المتشدقة باحترام حقوق الإنسان (الأوروبي أو الأبيض)، بمناسبة عودة قوافل المهاجرين غير الشرعيين القادمين من الضفة الجنوبية للمتوسط. ويتضمن ذلك الجدال مقدار عدم الاتفاق بين الدول الأوروبية الـــ28، من ناحية، كما يظهر للعيان، من ناحية أخرى، إدراك الأوروبيين مسائل متصلة بالإنسان "غير الأوروبي" الذي يمكنه تحمّل ظروف الحروب والهجرة غير الشرعية، إضافة إلى الإدراك المتصل بإمكانية فرض التسلطية في الفضاء الخارجي لأوروبا، باعتبارها حلا حيويا لاحتواء الأخطار والتهديدات، وفي مقدمتها آفتا هذا الزمان، الإرهاب والهجرة غير الشرعية.
بدأ ذلك الجدال بعد الحيرة التي رافقت إبحار سفينة الأكواريوس التي لم يعرف الأوروبيون كيف يسيّرونها، في ظل عدم الاتفاق على سياسة مشتركة حيال الظاهرة التي تعود كلما تسنح الظروف الجوية، صيفا، بتكرارها حاملةً معها المأساة التي يتسبب الاقتصاد والسياسة العالميان، غير المتوازنين، في استمرارها، فتنذر بكوارث نراها ماثلة، إما في أسواق بيع المهاجرين (ليبيا)، أو في سلسلة السفن الغارقة في مياه المتوسط، وعلى متنها آلاف الضحايا من الأفارقة، بصفة أساسية.
وقد حملت تعليقات الصحف ونشرات الأخيار، طوال الأسبوع الماضي، أخبارا وصورا عن 
تلك الكارثة، كما حملت مضمون نقاش جرى ويجري داخل أروقة المؤسّسات الأوروبية، وبين المثقفين الأوروبيين بشأن الظاهرة وتداعياتها، بصفة خاصة، على مستقبل العمل الأوروبي المشترك.
وقد جرى النقاش/ الجدال، في أوروبا، بطريقتين، سياسية ومؤسسية، ولكن بهدفٍ واحد، مضمونه الإقصاء والتناول "اليميني المتطرّف" للظاهرة. وبالنسبة للنقاشات/ الجدالات السياسية، يمكن التركيز على نقطتين أساسيتين، برزتا من ذلك النقاش، وهما، في المقام الأوّل، تأثير تلك الظواهر على صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا، خصوصا أنّ دولا كثيرة مقبلة على مواعيد انتخابية، قد يمتد الأثر الإيطالي، حيث فاز اليمين واكتسح الساحة، إليها. كما برز، أيضا، الحديث عن إشكالية ثقافية، بشأن التعامل مع الظاهرة، باعتبارها مسألة متصلة بماضي التعامل الأوروبي، مع كل ما يتصل بــ"الإنسان غير الأوروبي"، خصوصا أن ذلك الإنسان ينظر إليه على أنه خطر، حينا، من حيث ما يحمله من ثقافة، ودين، بل وطريقة حياة مختلفة عن حياة الإنسان الأوروبي، وتهديدا، حينا آخر، لأنه يضرّ بالتجانس العرقي الأوروبي وبالثقافة الأوروبية، وذلك كله منوط بخطاب سياسي غربي رافض للآخر، ومحبّذ لسياسة الإقصاء وغلق الحدود، إلى أقصى حدّ.
وبالنسبة للنقاش/ الجدال المؤسّسي، في أروقة الاتحاد الأوروبي، جرى في إطار انقسام حاد بين السياسات التي برزت إلى الأفق، والتي تفضّل العمل المنفرد كما تفضّل، وهي النقطة المشتركة بين تلك الدول، احتواء المشكلة في نقطة انطلاقها، أي في الضفة الجنوبية للمتوسط، بالضبط في الدول المغاربية التي تنطلق منها تلك البواخر بالمهاجرين غير الشرعيين.
انتقل ذلك الجدال/ النقاش، نتيجة ذلك، إلى المغرب العربي، لكنه لم يكن سياسيا، ولا مؤسسيا، بقدر ما كان إعلاميا، حيث إن القنوات السياسية فضلت، مرغمة، في أحيانٍ كثيرة، الحديث بصوتٍ خافت كون الظاهرة، من جهة، حسّاسة في إطار التعامل بين دول الضفتين، ومن جهة أخرى، يجري التعامل معها في إطار غير متوازن بين سياسة أوروبية، يجري التعبير عن الإدراك والقرار فيها، من خلال مؤسّسة وسياسة يبدو عليهما، على الأقل، الاتّفاق على نقاط الاحتواء المنفـرد وتصدير إدارتها إلى الضفة الجنوبية، في حين، من الجهة المغاربية، يجري التّعامل مع الظّاهرة نفسها بصفة انفرادية، وبقرار سيادي لكل دولة، دونما تنسيق لتصدير موقف مغاربي موحّد من الظاهرة وتداعياتها الإستراتيجية، السياسية والإنسانية، على حد سواء. وإذا كان الحال كذلك، كيف سيكون الموقف، في الأشهر المقبلة، إذا أصرّت الدول الأوروبية على اتّخاذ دول المغرب العربي منطلقا لاحتواء الظاهرة، بإنشاء مخيمات، بل محتشدات للمهاجرين، مع التشديد في حراسة السواحل ومراقبة نشاط الجماعات التي تعمل في تهريب المهاجرين السريين عبر الشواطئ المغاربية؟
طبعا، للتأكيد، فإن الدعوة لاحتواء المهاجرين بإنشاء محتشدات (مخيمات) لم تأت من الدول الأوروبية، مباشرة، بل من منظمات غير حكومية تعنى، وفق ما يقال، بالعمل مع أولئك المهاجرين، مساعدةً لهم. لكن، تعبّر، حتما، عن مواقف سياسية في تقاريرها الموصوفة بــــ"الإنسانية". وقد كتبت صحف، في الجزائر، مثلا، عن وجود ضغوط على الجزائر قصد إنشاء تلك المخيمات "الإنسانية" لمعالجة الحالات الإنسانية للمهاجرين غير الشرعيين، وهي منهجية أوروبية، علنية، لتصدير المشكلة إلى دول الضفة الجنوبية، احتواء لها، وفق ما يقولون، من نقاط انطلاقها، ومنعها من الوصول إلى شواطئها (خصوصا الإيطالية)، ومن ثم احتواء الظاهرة تماما بعيدا عن "الجنّة الأوروبية".
يمكن القول، بداية، إن هذا الموقف الجزائري الرافض إنشاء تلك المخيمات، ربما سيكون هو 
نفسه بالنسبة للمغرب وتونس لكنه، حتما، لن يكون الموقف نفسه بالنسبة لليبيا، بسبب الموقف الحرج الذي بلغته الأزمة السياسية في هذا البلد، إضافة إلى أن الموقف المغاربي الآخر لم يصدر عن مؤسسة مغاربية (اتحاد المغرب العربي)، كما لم يصدر تعبيرا عن موقف مغاربي متحد حيال ما يمكن اعتباره موقفا أوروبيا "عاديا" في إطار مؤسّسي.
كما يعبّر الإدراك الأوروبي في تصدير المشكلة إلى الضفة الجنوبية، ولو من خلال منظمات غير حكومية تنشط في إطار ارتباطاتٍ تكاد تكون رسميةً مع المؤسسات الأوروبية، عن رؤية لا توازنية للتعاون بين الضفتين بل يعبّر، أيضا، عن جهة مبادرة (الاتحاد الأوروبي) وجهة يقع عليها عبء ذاك الإدراك، وتلك السياسة (المغرب العربي)، وهو ما ينمّ عن مستقبل قاتم حيال احتواء هذه الظاهرة وملازمتها، من حيث الخطر والتّهديد، وفق الرؤية الأوروبية، وهي الإرهاب.
ختاما، يمكن القول إن مثل هذه القضايا تبرز إلى السّاحة الوجه القاتم للسياسة "الإنسانية" للغرب، كما تبرز، للأسف، تداعيات عدم الانتباه إلى حيوية العمل المؤسسي ومشاريع الاندماج المشتركة بين دول المغرب العربي. وقد قيل قديما، وما زال صحيحا، بالنسبة لزمننا هذا، أن المصالح هي الأساس، وأن اللبوس الذي تبرز به تلك المصالح مهما كانت "رسالية"، إلا أنها ترجمة للوزن الحقيقي في الساحة الدولية. وبالتالي، بالنسبة للقضية الحيوية للمهاجرين غير الشرعيين، اليوم، لا تعدو المسألة كونها تعبيرا واقعيا عن وزن أوروبا وثقلها، من ناحية، و"الضعف الهيكلي " للمغرب العربي، وانفراط عقد موقف/ مواقف دوله، من ناحية أخرى.
من ناحية ثالثة، تُبرز هذه القضية الحاجة الملحّة لصوت مغاربي واحد ومتّحد، ولا يتأتّي ذلك إلاّ من خلال موقف مؤسّسي، وهو منوطة بالتحرّك المستقبلي الضروري للمغرب العربي، بوصفه منتظما له وزن ومستقبل للدول، للطبقات السياسية، وللشعوب.