عن عودة الحراك الاحتجاجي في رام الله

عن عودة الحراك الاحتجاجي في رام الله

15 يونيو 2018

متظاهرون فلسطينيون في رام الله (14/6/2018/الأناضول)

+ الخط -
بشعاراتٍ صريحةٍ، هتف المحتجون في مدينة رام الله من أجل رفع العقوبات الصادرة عن السلطة الوطنية الفلسطينية بحق أهالي قطاع غزة. وبعد هدوءٍ استمر سنوات، عاد الفلسطينيون إلى الاحتجاج في الميدان الرئيسي للمدينة، والمعروف باسم "دوار المنارة". وابتدأ الاحتجاج بشعار "هل يُكافَأ الصمود بالعقاب؟"، قبل أن ينتهي بهتاف "الشعب أصدر قرار بدنا تشليو هالحصار"، في إشارةٍ إلى الحصار المفروض من السلطة الفلسطينية. واستمر المحتجون حتى ساعة متأخرة من مساء يوم الأحد الماضي (10 يونيو/ حزيران)، مردّدين شعاراتٍ تطالب الفلسطينيين بالعودة إلى الحل الثوري ومقاومة المحتل، وأخرى تطالب بالوحدة الوطنية، وكذلك وُجِّهَت شعارات ضد الرئيس الفلسطيني، محمود عباس وضد التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، فضلًا عن شعاراتٍ تحُث أهالي الضفة الغربية للانتفاض ضد العقوبات. واستمرت التظاهرات، على الرغم من قرار الحكومة منعها، وقوبلت بقمع شديد من قوى الأمن.
جاء الحراك الاحتجاجي في رام الله محاولةً للوقوف ضد جملةٍ من العقوبات الاقتصادية المرتبطة بخصوماتٍ من الرواتب، وإحالة موظفين إلى التقاعد المبكر، وإيقاف موازناتٍ تشغيليةٍ لمرافق حكومية، وتجميد تحويلات مالية، وفرض ضرائب، وقطع مخصصات مالية عن المعوزين في قطاع غزة، لكّن السياق الفلسطيني يصعب فيه فصل الاقتصادي عن السياسي والاجتماعي، سيما أن الوضع السياسي الذي يعاني منه الفلسطينيون، اليوم، يشهد تطوراتٍ خطيرةً تمسّ وجود الفلسطينيين في كل مكان، وذلك مع تعاظم استبداد الحكومة اليمينية الإسرائيلية التي تُوصف بـ "حكومة استيطان"، والمغالاة في انحياز الإدارة الأميركية إلى صف السياسة الإسرائيلية؛ والذي برز أخيراً مع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتفرغ الأنظمة العربية لممارسة الدكتاتورية على شعوبها من جهة، والهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل من جهة ثانية.
تقف السلطة الفلسطينية، المحكومةُ بُجملةٍ من الاتفاقات السياسية والاقتصادية مع المحتل،
 والمسؤولة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والإنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بين مطرقة إسرائيل وسندان ترامب وعصا هرولة الأنظمة العربية نحو التطبيع. إذ لا تزال السلطة التي لا تملك سيطرةً لا على موارد، ولا على سكان، ولا على حدود، ولا على اقتصاد، لم تصل بَعدُ إلى قناعةٍ، بأن صلاحياتها لا تعدو صلاحياتِ سُلطةٍ بلديةٍ وبمسؤوليةٍ أمنية، لا تتجاوز حماية أمن المحتل.
بلا شك، أن الحراك الاحتجاجي الجديد في رام الله، والمتناغم مع احتجاجاتٍ فلسطينيةٍ أخرى، ليس محاولةً عفويةً للرد على الوضع السياسي والاقتصادي المأزوم فحسب، بل محاولة جديدة لكسر الهيمنة التي فرضتها اتفاقات أوسلو، وتجاوز الفشل السياسي والاقتصادي لسياسات السلطة، وتخطي ما أفرزه قرابةُ عَقدٍ على الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة والقطاع؛ إذ ثمة خط احتجاجي فلسطيني جديد، يسعى إلى التأكيد على الالتحام الاجتماعي بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة، ومتجاوزًا للحدود الاستعمارية، ومؤكدًا حق الفلسطينيين بمقاومة المحتل، يُستدل عليه من حراك حيفا، ويليه حراك رام الله، وهذا وذاك، غير معزولين عن مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت في قطاع غزة في مارس/ آذار من العام الجاري.
ولهذا انصبت هتافات المحتجين في رام الله، بعد التأكيد على أن الفلسطينيين شعب واحد، ولديهم "همٌّ وعدّوٌ ومصيرٌ واحد"، على ترديد عباراتٍ مثل "من غزة لأُم الرشراش.. عاش المد الثوري عاش"، و"يا مقاوم فوضناك.. الشعب كله معاك"، و"تحيّتنا ثوريّة.. لحيّ الشجاعية"، و"ثورة ثورة ع المحتل.. غير الثورة ما في حل"، و"فليسقط غصن الزيتون.. ولتحيا البندقية"، و"زاد الحد وطفح الكيل.. يا انتفاضة شيلي شيل". ما يعني أننا أمام حراكٍ يتجاوز تجزئة أوسلو الاستعمارية، وغير مناطقي، ومؤمن بأن همّ ومصير الفلسطينيين واحدٌ أينما حلوّا. وهذا بحد ذاته امتحانٌ صعبٌ، إذ يحتاج تكاتفاً احتجاجيّاً للتنسيق بين الاحتجاجات الفلسطينية، في حيفا ورام الله وغزة.
ولأن حراكَ رام الله الجديد، غيرُ مفصولٍ عن الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت في أعوامٍ سابقةٍ، ولكلٍ منها خصوصيته، ومنها؛ احتجاجات الشباب عام 2012، واحتجاج موظفي وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" عام 2014، واحتجاجات المعلمين الفلسطينيين عام 2016، يأتِي هذا الحراك ليفيد بأنه "حراكٌ مستقلٌ، ومن الشعب الفلسطيني إلى الشعب الفلسطيني، وأنه ليس جزءًا من أحد، وليس حكرًا على أحد، ويهدف إلى حشد طاقات الشعب الفلسطينيّ، في كُل مكان، ويهدف إلى إلغاء العقوبات المفروضة على سكان قطاع غزة". وبذلك بدا أننا أمام حراك شعبي يواجه سياسات السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، ولا يواجه سياساتها في الضفة الغربية.
ولهذا نرى في هتافات المحتجين تشديداً على إدانة سياسات السلطة في قطاع غزة، مثل؛ "ليش تحاصر غزة ليش؟.. بكفي حصار الجيش"، و"حاصرونا في القطاع.. السلطة وجيش الدفاع"، و"أسمع أسمع يا عباس.. غزّتنا هي الأساس"، و"يا اللي بتسألنا شو صار.. ع غزة اشتد الحصار.. واللي بيسكت ع غزة بيموت مجلل بالعار"، و"سجل ع قائمة العار.. كل مُشارك في الحصار". ويعني ذلك أن حراك رام الله، كما حيفا وغزة قبل ذلك، وضعوا الهمّ الغزيّ أولويةً احتجاجيةً. وبعبارة أخرى، نحن أمام حراكاتٍ عفويةٍ تعمل بمعزلٍ عن التأطير الحزبي، ومن دون أجنداتٍ (بعكس ما يدّعي بعضهم)، ومتأثرين ببعضهم بعضاً، وإنْ بشكلٍ غير مباشرٍ، ومتفقين بأن يبدأ الفلسطينيون في إعادة إنتاج ذاتهم، والتحرّك من أجل تمكين الفلسطيني أينما كان، في ظل غياب حركةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ، تطرح رُؤيةٍ لكيفيّة توحيد الرؤية الفلسطينية للخروج من الوضع الراهن. وتواجه هذه الحالة، وبدون تعصبٍ، مأزقًا صعبًا، سيما أن الفلسطينيين في رام الله وحيفا وغزة أمام مشهدٍ، الأصل فيه مجزأ؛ إذ لا نحن أمام نظام سياسي واحد، ولا حركة وطنية واحدة، ولا دولة حقيقية، ولا سلطة فعلية.
استمر الحراك، على الرغم من أن المحتجين فوجئوا بيافطاتٍ وشعاراتٍ انتشرت بينهم، تهتف "بالروح بالدم نفديك يا عباس"، و"الانقلاب سبب كل المصايب"، و"17 مليار دولار تم 
إنفاقها من قبل السلطة على غزة". بينما قابل المحتجون ذلك بشعاراتٍ أخرى، مثل؛ "مجلس وطني كيف وليش.. في رام الله وتحت الجيش"، و"يا حرية وينك وينك.. هاي السلطة بيننا وبينك"، و"يا عباس طُلّ وشوف.. هي الضفة ع المكشوف"، و"تنسيق أمني ليش وليش.. مرة السلطة ومرة الجيش"، إضافةً إلى يافطةٍ حملت تعبيرًا واضحًا مفادها بأننا أمام "أطول خلل فني في التاريخ"، وذلك في إشارةً إلى تصريحات الرئيس الفلسطيني في ختام المجلس الوطني الفلسطيني في مايو/ أيار الماضي، بأن رواتب موظفي القطاع ستُصرف غدًا، وأن ما يقف أمامها هو خللٌ فنيٌ.
ولأن الحراك العابر للاستقطابات السياسية والأيديولوجية أضحى حالةً موجودةً في السياق الفلسطيني، فقد نجحت هذه الحراكات في التأسيس لتفاعلٍ شعبيٍ عفويٍ فلسطيني. لكّن تبقى هذه الحركات تُواجه أسئلة صعبة، مثل؛ الاستمرارية والديمومة، والانتشار إلى مدن غير رام الله، والقدرة على الالتحام مع احتجاجات أخرى للفلسطينيين في غزة والقدس والأرض المحتلة عام 48، ورفع سقف المطالب، لتشمل قضايا وطنية أخرى، وانضمام فئاتٍ أخرى من المجتمع، مثل الحركة الطلابية، والمجموعات الشبابية المستقلة، والنقابات، والمستقلين، وفئات اجتماعية غير محسوبة على الطبقة الوسطى، من قبيل سائقي السيارات العمومية، وأصحاب المحلات التجارية.