مخاطر العودة الفلسطينية إلى مسار التسوية

مخاطر العودة الفلسطينية إلى مسار التسوية مع إسرائيل

21 ديسمبر 2020
+ الخط -

حفّز فوز المرشّح الديمقراطي، جو بايدن، في انتخابات الرئاسة الأميركية في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، اتخاذ السلطة الفلسطينية خطواتٍ تُظهر رغبتها بالعودة إلى المسار الذي يدعى "عملية السلام مع إسرائيل"، تهدف، وفقًا لتصريحات مسؤولي السلطة، إلى طيّ صفحة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، وفتح صفحةٍ جديدة مع إدارة بايدن، مع ضمان عدم تكرار الخلافات التي سادت مع الإدارة الأميركية في فترة حكم الرئيس باراك أوباما (2009 - 2016)، والإيحاء بأن المطلوب من الإدارة الجديدة هو الدعوة إلى عقد مؤتمر سلام برعاية دولية، أو استئناف المفاوضات من حيث توقفت، أو احترام الاتفاقيات الموقعة والالتزام بها.
قبل فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، وتحديدًا في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دخلت السلطة الفلسطينية باتصالات غير رسمية مع حملة بايدن، عن طريق رجال أعمال وشخصيات فلسطينية وعربية مقيمة في الولايات المتحدة. ووفقًا للسلطة، بدت هذه الخطوة رهانًا تطمح منه إلى العمل مع إدارة جديدة تعتمد المسار التقليدي للسياسة الأميركية، ومدخلًا للعمل مع إدارة تسعى إلى إصلاح بعض ما أفسده ترامب؛ بإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، واستئناف المساعدات المالية للفلسطينيين، والتراجع عن قطع المساعدات الأميركية عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). وبالفعل، كشف نائب رئيس حركة فتح، محمود العالول، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عن تواصل السلطة الفلسطينية مبكّرا مع حملة بايدن الانتخابية، والتوصل إلى تفاهماتٍ جدّية معها تتعلق بالإجراءات الواجب اتخاذها على المستوى السياسي ومستقبل العلاقات مع إسرائيل.
خطوات فلسطينية
تزامن حسم المرشّح الديمقراطي، جو بايدن، فوزه بانتخابات الرئاسة الأميركية مع مجموعة من الخطوات الفلسطينية غير المعهودة منذ وقف علاقات السلطة الفلسطينية مع إسرائيل في مايو/ أيار الماضي. على المستوى المحلي، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلن رئيس هيئة الشؤون المدنية، حسين الشيخ، استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل، بموجب رسالة رد تسلمتها السلطة الفلسطينية من الحاكم العسكري الإسرائيلي، كميل أبو ركن. وبعد أسبوعين، استلمت السلطة الفلسطينية، أكثر من مليار دولار أميركي هي مستحقات مالية للفلسطينيين من عائدات الضرائب الفلسطينية التي تجبيها إسرائيل نيابة عن السلطة على وارداتها من إسرائيل والخارج، بعد الامتناع عن استلامها أكثر من ستة أشهر بسبب بدء سريان قانون صادر عن الكنيست الإسرائيلي، ينص على اقتطاع قيمة المبالغ التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى وذويهم من عائدات الضرائب.

لا تدلّ خطوات السلطة الفلسطينية للتعامل مع إدارة بايدن على تحوّل استراتيجي بل تبدو هدايا مجانية

على المستوى الإقليمي، أثار قرب وصول بايدن إلى البيت الأبيض الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني)، وتوقع السلطة الفلسطينية عودة العلاقات مع الولايات المتحدة إلى الفترة التي سبقت ولاية ترامب، خطوات فلسطينية للعمل مع بعض الدول العربية، بهدف تهيئة البلدان العربية لعودة السلطة إلى مسار عملية السلام مع إسرائيل، ضمن إطار عربي ودولي مختلفٍ عن مسار ترامب، يضمن للسلطة السير في طريق يُعيد الاعتبار لها ولقيادتها بعد تهميشهم إبّان ولاية ترامب. ولترتيب ذلك، قام الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، بجولة خارجية هي الأولى له منذ تفشّي جائحة كورونا (كوفيد - 19) بزيارة الأردن ومصر أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ثم تبعها بزيارة إلى قطر منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي.
وعلى المستوى الدولي، حفّز حسم بايدن نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية تواصل السلطة الفلسطينية مع دول ومنظمات دولية عديدة، بغرض تهيئتهم للعودة إلى مسار عملية السلام مع إسرائيل. ففي 10 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، أكد الرئيس محمود عباس، في أثناء لقائه وزير الخارجية الإسباني، أرانتشا غونزاليس، استعداد السلطة الفلسطينية للعودة إلى مفاوضات السلام مع إسرائيل على أساس قرارات الشرعية الدولية وبرعاية اللجنة الرباعية الدولية. وصرّح وزير الخارجية الفلسطيني، رياض المالكي، في كلمته أمام منتدى حوارات البحر الأبيض المتوسط، إن السلطة تتواصل مع المجتمع الدولي، لتعبر له عن التزامها بحل الدولتين، ونيتها بالعودة إلى المفاوضات على أساس القانون الدولي.
ويقينًا، فإن الخطوات التي تقوم بها السلطة الفلسطينية منذ فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة الأميركية لا تفيد بأن ثمّة تحوّلا استراتيجيا في طريقة إدارة الصراع مع إسرائيل، ولا يُعتقد أن ثمّة استراتيجية جديدة في إدارة العلاقة مع الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن، أو مع الدول العربية التي ينجرُّ بعضها إلى التحالف/ التطبيع مع إسرائيل.
رهانات وخيارات مكشوفة
وهناك أسباب رئيسة تمنع السلطة الفلسطينية من تبنّي خطوات جديدة لمجابهة التحوّلات الاستراتيجية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. فعلى الصعيد المحلي، لم تستطع السلطة الفلسطينية التعويل على سياسة الانفكاك عن إسرائيل التي تبنّتها حكومة رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد اشتيه، منذ توليه المنصب في إبريل/ نيسان 2019. وبدلًا من ذلك، كشفت الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية لمكافحة تفشّي جائحة كورونا عمق التنسيق المشترك بين الجانبين، وأن هذا التنسيق يتم بموافقة سياسية، وذلك وفقًا لما جاء على لسان وزيرة الصحة الفلسطينية، مي كيلة. ولعل المثال الأبرز على ذلك تشكيل غرفة عمليات مشتركة لمكافحة الجائحة في المراحل الأولى من الأزمة، فضلًا عن حصول السلطة الفلسطينية في مايو/ أيار الماضي على قرض مالي بقيمة 28 مليون دولار من حصتها من أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل، بسبب التراجع الحادّ في عائدات السلطة الفلسطينية، بما في ذلك عائدات الضرائب.

 قضت خطوات السلطة الفلسطينية على أي أفق محتمل لاستكمال تطبيق مخرجات اتفاق الفصائل الفلسطينية

على الصعيد الإقليمي، كشفت موجة التطبيع/ التحالف العربي مع إسرائيل عن عقم خيارات السلطة الفلسطينية، فحتى الآن لم تكشف السلطة عن سياسة واضحة للتعامل مع الدول العربية التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل، قبل حصول الفلسطينيين على دولة على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967. ففي النصف الثاني من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قرّرت السلطة الفلسطينية العدول عن خطوتها بسحب سفيريها في الإمارات والبحرين بعد استدعائهما احتجاجًا على توقيع البلدين اتفاقات للتطبيع مع إسرائيل. وفي الواقع، على الرغم من ردة الفعل السريعة التي اتخذتها بعد تطبيع الإمارات والبحرين بسحب السفراء، يبدو أن السلطة الفلسطينية وقيادتها تخشى تكريس حقبة العزلة والتهميش من البلدان العربية التي عاشتها إبّان ولاية ترامب. وفي محاولةٍ لاستعادة الحاضنة العربية، امتنعت السلطة عن اتخاذ أي خطواتٍ رسميةٍ تجاه السودان والمغرب، عقب إعلان البلدين توقيعهما اتفاقًا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد زاد من حدّة المأزق توقف الدول العربية عن دفع التزاماتها المالية للسلطة الفلسطينية، سيما من دول خليجية اتخذت مواقف مؤيدة "صفقة القرن"، واتجهت إلى التطبيع/ التحالف مع إسرائيل.

 لم تكشف السلطة عن سياسة واضحة للتعامل مع الدول العربية التي وقعت اتفاقات سلام مع إسرائيل

وعلى الصعيد الدولي، لم يتحمّل المجتمع الدولي الاستمرار بدفع تكلفة قطع الفلسطينيين علاقتهم بالولايات المتحدة وإسرائيل، فمنذ أن قطعت السلطة الفلسطينية علاقتها معهما مارست دول ومنظمات دولية عديدة ضغوطًا على السلطة الفلسطينية لاستئناف العلاقات، سيما مع الأخيرة. فعلى المستوى الاقتصادي، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، صرح مسؤولون فلسطينيون بأن السلطة الفلسطينية تقدّمت، أخيرا، بطلب إلى الاتحاد الأوروبي، للحصول على قروض لتغطية العجز المالي في موازنتها، إلا أن طلبهم قوبل برفض أوروبي، مع دعوتهم بالتوجه إلى أخذ أموال الضرائب من إسرائيل. وعلى المستوى السياسي، وجدت السلطة الفلسطينية نفسها في أزمة سياسية، بسبب ترحيب الاتحاد الأوروبي باتفاقات التطبيع/ التحالف مع إسرائيل، وعدّها تطورًا مُرحبًا به، ويمثل إشارة إيجابية بأن حل الدولتين لم يعد شرطًا مسبقًا للتطبيع، وفقًا لما جاء على لسان الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
غياب تحول استراتيجي فلسطيني
من هنا، لا تدلّ خطوات السلطة الفلسطينية للتعامل مع إدارة بايدن على تحوّل استراتيجي، بل تهدف إلى، أولًا: بناء خطوط من الثقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وتقديم هدايا مجانية لها، ويظهر ذلك في استئناف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وقبول أموال الضرائب في ضوء سريان قانون خصم قيمة المبالغ التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى وذويهم، وتقديم وعود باستكمال عملية إصلاح نظام المخصصات المالية لعائلات الأسرى والشهداء. ثانيًا: بدء حملة دبلوماسية إقليمية ودولية لفك العزلة عن السلطة الفلسطينية وقياداتها، وتهيئة الظروف للعودة إلى مسار عملية السلام مع إسرائيل تحضيرًا لوصول بايدن إلى البيت الأبيض الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني). ثالثًا: قطع الطريق على أي محاولاتٍ محتملةٍ لفرض قيادة فلسطينية بديلة.

على الرغم من أن السلطة الفلسطينية قد تعدّ خطواتها الأخيرة استراتيجية عمل للسنوات الأربع المقبلة، إلا أن التداعيات المحتملة على السلطة قد تؤدّي بها إلى أن تقضي هي على مشروعها القائم على حل الدولتين، وما يعزّز ذلك أن السياق السياسي الذي تتموضع به القضية الفلسطينية اليوم مختلفٌ عن السياق قبل وصول ترامب (المنتهية ولايته) إلى الرئاسة عام 2017.
على الصعيد المحلي، فمن جهة قضت خطوات السلطة الفلسطينية، أخيرا، على أي أفق محتمل لاستكمال تطبيق مخرجات اتفاق الفصائل الفلسطينية والأمناء العامين الذي عقد في بيروت في سبتمبر/ أيلول الماضي، وهذا فضلًا عن تراجع إمكانية استمرار مسار المصالحة الفلسطينية بين قطبي الانقسام، حركتي فتح وحماس، فمنذ أن حسم بايدن نتائج الانتخابات الرئاسية، وبعد ذلك، استئناف السلطة الفلسطينية التنسيق مع إسرائيل، تراجعت أهمية كل الجهود المشتركة لرفض "صفقة القرن" والتطبيع/ التحالف مع إسرائيل، وتشكيل قيادة وطنية موحدة، وإطلاق حوار وطني شامل لإنهاء الانقسام. ومن جهةٍ أخرى، تفتح خطوات السلطة، المعلنة أخيرا، كذلك المجال لوضعها على طاولة واحدة في مفاوضات مع حكومة إسرائيلية يمينية، تتحالف مع أنظمة عربية تجاوزت، باتفاقاتها للتطبيع مع إسرائيل، أطروحة حل الدولتين، ولطالما أكّدت نيّتها الاستمرار بضمّ أراضٍ واسعة من الضفة الغربية، وهي التي ضمّت القدس والجولان المحتلّتَين قبل ذلك.

قضت خطوات السلطة الفلسطينية، أخيرا، على أي أفق محتمل لاستكمال تطبيق مخرجات لقاء بيروت للمصالحة الفلسطينية

على الصعيد الإقليمي، تضع السلطة الفلسطينية نفسها في صف الانجرار العربي نحو اتفاقات التطبيع/ التحالف مع إسرائيل، ما يعني خارج مبادرة السلام العربية المعلنة عام 2002، والتي تشترط التطبيع بعد قيام الدولة الفلسطينية. وبالتالي، تضع النتائج السياسية المترتبة على هذا الأمر السلطة في مأزق، وربما تكون تداعيات ذلك، إلى جانب الضغوط من الحلفاء التقليديين العرب للسلطة، أقوى من قدرتها على رفضها، بسبب ما تمثله هذه البلدان من سند سياسي ومالي تعتمد عليه.
وعلى الصعيد الدولي، على الرغم من صعوبة توقع مكانة القضية الفلسطينية ضمن الأولويات الخارجية لإدارة بايدن، وما يمكن أن تكون عليه سياسته تجاه القضية الفلسطينية، بدا أن ثمّة مؤشرات واضحة لا بدّ من مراعاتها، كانحيازه لصالح إسرائيل وأمنها، ومحدّدات قدرته بالتراجع عن القضايا التي حسمها ترامب، مثل القدس واللاجئين والسيادة والأرض والمستوطنات. وقد تؤدّي هذه المحدّدات إلى غياب قدرة المجموعة الرباعية الدولية (الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة، والولايات المتحدة) التي تعوّل عليها السلطة الفلسطينية في تحقيق تقدّم في المفاوضات مع إسرائيل، ولا سيما أن السلطة، على لسان رئيسها، صرّحت، أكثر من مرة، إنها لن تقبل أميركا وحدها وسيطًا للسلام مع إسرئيل.
أخيرًا، في مثل هذا السياق السياسي المعقد، عودة السلطة الفلسطينية إلى مسار عملية السلام مع إسرائيل تعني مسؤوليتها هي في القضاء على مشروعها السياسي القائم على حل الدولتين. بهذه الحالة، تحافظ السلطة على مؤسساتها ونخبها وبيروقراطيتها وزبائنها وشبكات مصالحها، ولكن هذا لا يعني بقاء مشروعها السياسي. ليس هناك الكثير الذي يمكن انتظاره من إدارة بايدن، أو المجتمع الدولي، لتغيير الوقائع التي فرضتها إسرائيل منذ استعمارها أرض فلسطين، وشرعنها ترامب خلال فترة ولايته، سيما تلك المتعلقة بالاستيطان.

عودة السلطة الفلسطينية إلى مسار عملية السلام مع إسرائيل تعني مسؤوليتها في القضاء على مشروعها السياسي القائم على حل الدولتين

وعوضًا عن ذلك، يجب التركيز على البحث عن فرصة فلسطينية لمقاومة ذلك كله. لذلك، يجب التركيز على البحث عن هامش ضئيل جدًا للفلسطينيين، يمكن من خلاله العمل خلال السنوات الأربع المقبلة في ظل إدارة بايدن. ولا شك سيكون أفضل لو دعت منظمة التحرير جميع القوى والفصائل الفلسطينية للتفكير استراتيجيًا بالمرحلة المقبلة، على أن تدعو الأخيرة إلى بناء إستراتيجية فلسطينية موحدة تُعيد تعريف نضال الفلسطينيين خارج وهم حل الدولتين، وباتجاه مقاومة واقع دولة الفصل والتمييز العنصري القائمة على الأرض، على أن تكون نقطة البدء هي استراتيجية نضالية موحدة، هدفها أولوية التحرّر من الاستعمار الإسرائيلي، ومرتكزاتها قيم الحرية والعدالة والمساواة.