هزائمنا الشخصية

هزائمنا الشخصية

07 مايو 2018
+ الخط -
يقول المثل الإنكليزي "إذا لم تستطع التغلب عليهم فلتنضم إليهم". وثمّة مثل مشابه في المعنى في ثقافتنا الشعبية، لا يقل براغماتيةً، توارثته أجيال تربت في فضاء الهزائم والانكسار "من يتزوج أمي أناديه عمي". ويقترح المثلان، على الرغم من الاختلاف الجذري بين الثقافتين، كيفية التعاطي بذكاء وحنكة مع لحظة الهزيمة، وذلك بالاعتراف بحدوثها واقعا لا بد من التعايش معه، ثم محاولة التخفيف من آثارها والعمل على التكيف مع تبعاتها، والخضوع، وفق منطق القوة، إلى الخصم الذي أحل بنا الهزيمة.
وليس المقصود هنا الحديث عن الهزائم الكبرى التي منينا بها تاريخيا أمة منكوبة على أكثر من صعيد، وهي الهزائم التي ولدنا وتربينا، وسوف نموت على ما يبدو ونحن في كنفها قدرا ومصيرا لا رادّ له، بل أصبحت علامةً فارقة، لازمتنا عبر عمرٍ من الخيبات، لم نحظ فيه بلحظة زهو حقيقية، ما خلف فينا عقدا نفسية، وتشوهات غير قابلة للعلاج، جرّاء استمرار الحال على ما هو عليه، إلى أجلٍ غير معلوم، بل أقصد الهزائم الشخصية التي تبتلينا بها الحياة بين حين وآخر، كأن تتعرّض لمؤامرةٍ كبيرةٍ من زملاء صغار النفوس، يرعبهم تمييزك، فيعمدون إلى إيقاع الأذى بك، يتنافسون مثل حيواناتٍ ضاريةٍ على مكاسب تافهة، لن تضيف إليهم إلا المزيد من الضعة والخسّة، أو أن تتعرّض لخيبة أمل في أشخاصٍ توهمت أنهم أصدقاء عمر، يسند بهم الظهر، ظللت تعطيهم من سخاء روحك بلا حساب، قبل أن تكتشف أنهم مجرد معارف لا يربطهم بك سوى مصالحهم الشخصية، تكتشف أنك راهنت على أحصنةٍ خاسرةٍ، لا تكترث في مضمار الحياة إلا بمقدار العلف الذي سوف تلتهمه.
تستدعي هزائم مثل هذا الطراز التوقف والتفكير مليا في كيفية التصرّف الأفضل في مواجهتها، ولعل الإقرار في وقوع الهزيمة هو الخطوة الأهم في سياق تخطيها، وتذكير الذات بأنها ليست النهاية واليقين بأن في جعبة الحياة لحظات انتصار وفرح قادمة بالضرورة، انطلاقا من حقيقة استحالة دوام الحال. والأهم من ذلك كله تجنب الوقوع في فخ رثاء الذات وإقامة البكائيات على الخسائر، مهما كانت فادحة، وكذلك تنمية الإحساس بالفخر والرضا عن الذات، طالما أن الواحد فينا خاض المعركة حتى النهاية، بنزاهةٍ وأخلاق رفيعة، ولنثمن في دواخلنا شرف المحاولة، حتى لو لم يتحقق لنا ما كنا نرتجيه.
في ظل صفات مثل هذه الروح الفارسة الحرّة، يبدو مضمون المثلين العربي والإنكليزي مجرد اقتراحاتٍ لا أخلاقية بائسة، تحط من شأن الروح وتستصغرها، لما تنطوي عليه من جبن وانتهازية وخنوع وتلون وباطنية، تتنافى بالمطلق مع المبادئ الإنسانية النبيلة التي تحصننا من الوقوع في مستنقع الاستجداء والتذلل، لأن الكرامة وعزة النفس حق إنساني، حتى ونحن نتجرّع مرارة الهزيمة، غير أن بعضهم يفرط فيه خوفا وجشعا وتشبثا، لأنهم مثل هذه النماذج لم تتذوق يوما حلاوة الاستغناء. وهي النعمة الكبرى التي تجعل منا أشخاصا نتميز بالتماسك والتوازن، مهما صادفنا من وهن وخذلان وخيبة، تظل مصانةً قويةً ثابتةً عزيزةً عاليةً حرة أرواحنا، لأن لحظة الهزيمة هي الامتحان الحقيقي لقدرة تحملنا ورفعة سلوكنا وعزة نفوسنا، لا نعيد ترتيب أوراقنا وفقا لشروط المنتصر، بل ننأى وننجو بأرواحنا من عبء التملق الدبق، المكشوف في سبيل التشبث بحبل نجاةٍ منسوج من ذلٍّ وهوان.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.