سيرة ذاتية غير صالحة

سيرة ذاتية غير صالحة

18 مايو 2018
+ الخط -
جلسنا في مقاعد الجامعة نستمع لمحاضرات أحد الأساتذة، وهو يشرح بإسهاب عن الأسواق المالية، وبين الارتفاع والانخفاض لمؤشرات البورصة، كانت تعلو أحلامنا وتنخفض، كانت ثورة 11 فبراير الأمل لهذا الجيل الذي ما زال يتطلّع إلى وجود دولة حقيقية، إذ خرج أبناء فبراير بثورة عظيمة من أجل دولة يسودها القانون والعدالة الإجتماعية والسيادة المطلقة. بعد ذلك، تتقلّص الآمال تدريجيًا، وتُصبح مخرجات الحوار الوطني حبرًا على ورق، وفرصة إنشاء سوق للأوراق المالية ضربًا من الخيال، حيث من الترف أن نطالب بسوق للبورصة، ولم نعد نمتلك دولة!
تخرجت من كلية التجارة والاقتصاد بتخصص علوم مالية ومصرفية، وبدأت بالعمل مباشرة في إحدى المدارس الخاصة. في البداية، قلتُ في نفسي لا بأس من التجربة في هذا المجال، إذ من الجيد أن أحصل على خبرة، وأن أبدأ حياة جديدة بعد الجامعة. لكن تنقضي السنة الأولى وتبدأ الثانية، ولم أحصل على وظيفة جديدة. واليوم تحديدًا أكملت السنة الخامسة، وأنا أعمل في المدرسة نفسها، اكتفيتُ من التعليم، وحقيقة أنني لم أفكّر في حياتي أنني سأعمل في هذا المجال لأنني لا أحبه، إلا أنها الحياة تأتي على غير ما نريد.
قبل أن أُنهي الثانوية العامة، كنت أريد أن أتخصّص في الإعلام، ولأسباب كثيرة لم أستطع أن أذهب إلى التخصّص الذي أردته. بعد سنوات، اتضح لي أن من السهل في هذا الزمن أن أصبح إعلامية أو صحافية من دون أن أرتاد الجامعة.
كانت الكتابة الطريق الذي أحلم به، أن أكتب وفقط، كنت أجلس بالساعات أمام حاسوب أخي، حين لازلت طالبة مدرسة، أقرأ وأدوّن القصائد في مختلف العصور، كنت أجد نفسي حين أتلذّذ بقراءة الشعر، وحيدة، من دون أصوات تعكّر هذه الخلوة البهيّة. أصبحت الكتابة حيلتي الوحيدة لمواصلة الحياة ومواجهتها، كتبت وأضعت في لحظات ضعف ويأس كل ما كتبته، أحسستُ باللاجدوى، وآثرت العزلة، بقيت لأيام وشهور طويلة من دون كتابة حرف واحد، ثم عدتُ لأبدأ من جديد، كانت عبارة ماركيز ترّن في أذني كلما أصابني الإكتئاب: لسنا، نحن الكتاب، كُتابًا بفعل مزايانا الخاصة، إنما بفعل نكبة أننا لا نستطيع أن نكون شيئًا آخر".
وبالطبع، لستُ أقول أنني كاتبة، فالكتابة لها تبعات كثيرة ومخيفة، إلا أنني لا أستطيع أن أكون شيئًا آخر.
لم أذهب إلى أي فعالية ثقافية أو أمسية شعرية، أو حتى معرض للكتاب، وربما لم يصادف أن دعاني أحد، إذ أستطيع أن أقول أنني منعزلة ثقافيًا ولم تغريني كل تلك المظاهر البرّاقة، كنت أقول في نفسي ليست هذه الأشياء ما ستجعلني كاتبة، إذ كانت العزلة طريق كثيرين من الكتّاب والأدباء.
في مرة، ذهبت إلى احتفالية صغيرة احتفاءا بكاتبة ما، جلست في المقعد الأول أتأمل كل هذا الزيف والتبجيل من أجل لا شيء، إنه أشبه باستعراض للسِيرك، يستميتُ الآخر من أجل إبهارنا في حين أننا نعرف في قرارة أنفسنا، أن الخداع هي طريقته.
أُحِبُّ كلمة لا، وأحاول أن تسكنني من أجل المواقف التي تستدعي قول لا صراحة، وما من حافز يجعلني أشدّ العزيمة سوى ما جاء في قصيدة لأمل دنقل: "المجد للشيطان معبود الرياح/ من قال لا في وجه من قالوا نعم". وكلمة لا يجب أن تكون الحاسمة والعُليا، لو أننا قلنا لا في حياتنا لما وصلنا إلى هذا الحال المؤسف، ولما ضاع وطن بأكمله.
تبهرني المرأة القوية التي تنتزع حقها في الحياة والتعليم والعمل والحب على كل من يتجرأ أن يسلبها منها، بدءا من العائلة والبيئة ونهاية بالمجتمع، لا تهمني المصطلحات الفضفاضة كنسوية وفيمنست، ولا أسعى وراءها. أؤمن بالقوة من دون التقيّد بأي من هذه المسمّيات، وليس من شيء يجعل المرأة قوية سوى التعليم، ثم الشجاعة، ولا أحد يمكنه أن يأخذ حق المرأة سوى المرأة نفسها، من دون ذلك مجرّد شعارات فارغة وعبارات جوفاء.
شاءت الأقدار أن تصادف مرحلة الشباب والنشاط والقوة في فترة الثورة، ثم تلتها الحرب، وينبغي منّا أن نقاوم. وهذا ما نفعله بالضبط، نقاوم بطريقةٍ أشبه بالعجز، نحن نقاوم لأنه ما من طريقة أو خيار آخر لنا، لأن القرار ليس بأيدينا، بل بيد ظالمة تبطش وتأخذ من دون أدنى ضمير أو رادع، كأننا مجرد دمى على مسرح خشبي يتم تحريكنا وفق إرادتهم.
لا أُنكِر أنّ كل مرحلة عمرية عشتها كانت لها مميزات خاصة، بغض النظر عمّا إذا كانت سيئة أو جيدة، لها خصوصيتها وطابعها المختلف، حتى وإن كانت الحرب تجري فوق رؤسنا، لا عذر لنا ألّا نقاوم، وهذه الفترة ستكون المقاومة بالكتابة في مرحلة البطالة، ستكون مرحلة مثيرة بين الاثنتين، وليس علي سوى التدوين لإيجاد حياة جديدة.
559B0835-9340-4E8B-B286-62F582C7C98F
559B0835-9340-4E8B-B286-62F582C7C98F
إجلال البيل (اليمن)
إجلال البيل (اليمن)