السياسيون اللبنانيون الجدد ووراثة التابعين

السياسيون اللبنانيون الجدد ووراثة التابعين

29 ابريل 2018
+ الخط -
لا يُعوِّل الجيل الجديد من السياسيين اللبنانيين على وراثة تراث أهلهم الذين شغلوا مواقع سياسية وحزبية ومواقع زعامات طائفية في بلادهم، بقدر ما يُعوِّلون على وراثة التابعين التقليديين الذين أدمنوا الولاء الأعمى لهذا الزعيم السياسي والحزبي والطائفي، أو ذاك، في لبنان، فلا يستطيعون الخروج عنهم، وكأنهم باتوا أقناناً، حتى وإن انعدمت لدى السيد أدوات إخضاعهم أو وَهنَت. وحيث يمكن ملاحظة أداء التابعين لهؤلاء الزعماء فروض الطاعة والولاء، جماعاتٍ في كل مناسبة، وفرادى في الأيام العادية، تبدو صور تلك الفروض بوضوح أكثر، وتصبح على أشدِّها، في كل استحقاق سياسي، مثلما تتبدّى هذه الأيام في الحملات الانتخابية لمرشحي مجلس النواب اللبناني للانتخابات التي ستجري في 6 مايو/أيار المقبل. 
أما وقد احتدمت المنافسة، مع اقتراب موعد هذا الاستحقاق، فقد برزت ممارسات وظواهر تخللت هذه الحملات الانتخابية، لا يمكن تصنيفها سوى ضمن بند اطمئنان الزعيم السياسي اللبناني إلى المدى الذي يمكن لتابعيه أن يصلوا فيه بمستوى طاعتهم له، وهو مستوى يمكن له أن يزداد حدةً، إن طلب هذا الزعيم ذلك. لكن هذا الزعيم ليس في وارد الطلب، ما دام التابعون يقدّمون فروض الطاعة التي تبرز ناصعةً في ظاهرة حمل السياسيين على الأكتاف، وهي في حد ذاتها تعبيرٌ عن ظاهرة الاستعباد التي استمرأوا فيها هؤلاء الزعماء أو السياسيين أجيالاً بعد أخرى. وحَمْلُ الزعيم على الأكتاف ليس لكي يتسنّى له أن يهتف هتافاتٍ مطلبيةٍ، يتضمنها برنامجهم الانتخابي، فهذا ليس جزءاً مهماً من الحملة، بل يُنقل من مكان إلى آخر، كأن يُحمل من سيارته إلى مكان تجمع انتخابي، سيُظهر فيه لمحازبيه أسنانه وحسب، بدلاً من أن يترجَّل ويمشي. كما تبرز تلك الفروض بتقاطر الناس، يومياً، إلى محلّة هذا الزعيم، ليخرج عليهم من شرفة قصره أو يصطفي منهم ممثلين يستقدمهم إلى مجلسه، ويُسمعهم كلاماً لطالما سمعوه من والده أو جده، لا يغير في حالهم شيئاً، ولا هم يطمحون إلى أن يكون كذلك.

وكانت ظاهرة الاستزلام جزءاً من تركيبة النظام اللبناني، قبل استقلال لبنان عن الاستعمار 
الفرنسي، سنة 1946، حين كانت العائلات الإقطاعية تدير البلاد، ولم تتغيّر بعد الاستقلال، بل اتسعت وتجذَّرت، وساهم في تجذُّرها غياب الدولة الضامنة للمواطنين وعيشهم، إضافة إلى غياب أي مشروعٍ وطنيٍّ جامع وطامح لتقوية الدولة، وتكريس مؤسساتها. كما ساهمت في تجذُّرها محاصصة الزعماء السياسيين وزعماء الطوائف مؤسسات الدولة، وتقاسمهم مجلس الوزراء والمجلس النيابي والمؤسسات السيادية بشكلٍ يضمن التوازن الطائفي في البلد، ويمنع الإخلال به. فأصبح الحكم، والحالة هذه، أشبه بإقطاعات سياسية تستأثر كل طائفةٍ أو مذهبٍ بقطاع منه، مُجيِّرين مؤسساته لصالحهم، ودافعين المواطن اللبناني إلى حد اختيار الارتهان إلى الزعماء أو إيجاد نفسه بلا ضامن يؤمن له العمل، ولأبنائه التعليم والاستشفاء.
وكان لافتاً الانتقال السلس للزعامة السياسية أو الطائفية بين الآباء والأبناء فالأحفاد، وهو أمر دائم الحدوث داخل العائلة السياسية الواحدة، أو الحزب السياسي الواحد، أو الطائفة الواحدة، من دون أي معارضةٍ تذكر من المحازبين أو أبناء الطائفة. وتكرّر هذا التوريث خلال السنوات الأخيرة، ومنه ما تزامن مع استحقاق الانتخابات النيابية الحالي، وأصبح ثقيل الوقع، بحيث انتشر بين الأوساط في البلاد ما بات يُعرف بـ "التوريث السياسي" الذي لا يتطلب من الوارث مراكمة تجارب سياسيةٍ أو إداريةٍ، بقدر ما يتطلب الانتماء الأبوي للزعيم، فيكفي بالزعيم الشاب، الوارث، أن يتمنطق ويقف بجانب والده، المورِّث، لالتقاط صورة توزّع على الأتباع، تمهيداً لمشاركة والده جولاته التفقدية للرعية، وتقديم ابنه لها ليكرّسه زعيماً عليها.
ولا تواجه هذه الآلية أي معارضةٍ تذكر داخل الطائفة أو الحزب، فعلى سبيل المثال لم ينطلق داخل حزب الكتائب صوتٌ يعارض انتقال زعامة الحزب من أمين الجميل إلى ابنه سامي، تماماً كما انتقلت، قبل ذلك، من الجد بيار الجميل إلى الابن بشير ثم أمين، بعد اغتيال بشير، ولم يُسمع، يومها، صوتٌ يعارض ذلك الانتقال. وهو ما يتكرّر هذه الأيام مع الورثة الشباب الجدد، مجيد أرسلان، ابن النائب الحالي طلال أرسلان، ومع طوني فرنجية، ابن النائب سليمان فرنجية، الوارث عن أبيه وجدّه، ومع تيمور جنبلاط الذي يرث الزعامة عن والده، وليد، والذي ورثها بدوره عن والده كمال، حيث انتظر كل من مجيد وطوني وتيمور هذه الانتخابات، للوصول إلى البرلمان، ويتم الأمر لهم رسمياً.
ويحتفل الإعلام اللبناني المُجيَّر لصالح الزعماء، ويحتفل معه الزعماء، بالاستحقاق الانتخابي 
الحالي، مطلِقين عليه تسمية "عودة الديمقراطية". ولكن أي تسميةٍ هذه مع احتكارهم الحياة السياسية وتَغَنِّيهم بما تسمى "الديمقراطية التوافقية" التي أتت لتقر بانقسام المجتمع اللبناني الذي فرضه تنوعه الطائفي، معتبرين أنها منقذة لبنان من أي صراعٍ عبر ما تفرضه من توازناتٍ طائفية. هذا النوع من الديمقراطية الذي لجأت إليه بعض الدول، ونظَّر له مفكروها قبل عشرات السنين، فرضه تعدُّد قومياتها، على عكس حالة لبنان، إذ إنه لا يفعل سوى تأجيل اندلاع الصراع الطائفي في مجتمعه، حيث يظل هذا الصراع نصب أعين الزعماء، وغبّ طلب أي زعيمٍ يشعر في ذلك التوافق انزياحاً في غير صالحه. ولا يتمسّك زعماء الطوائف بهذه الديمقراطية، سوى لكونها تلغي الديمقراطية القائمة على أساس المواطنة المتساوية وسيادة القانون، ففي هذه الأخيرة إلغاءٌ لتأثيرهم النخبوي الذي يجعل الأقنان ينفضّون عنهم.
وككل انتخابات، وبعد كل استحقاق سياسي، يهجع أفراد الشعب اللبناني إلى بيوتهم خائبين، لا يتأملون في خطابات زعمائهم التي تتضاءل الوعود فيها حتى تنعدم. ومن الوعد بتوفير تسعمائة ألف فرصة عمل، كما بشَّر رئيس الحكومة اللبنانية الحالي، سعد الحريري، في حمّى الحملات الانتخابية، إلى وعده بالتقاط "صورة سيلفي"، بعد فوز مرشحي تياره بالانتخابات، مع كل سيدةٍ من مناصريه شاركت في تجمع انتخابي نسائي نظّمه التيار، تتبيّن مدى جدّية زعماء الطوائف اللبنانية، ويتبين، أيضاً، مدى غياب المنعة لدى أتباعهم تجاه الوعود التي لم ينفِّذوا منها وعداً واحداً، ليس لديهم ما يحفّز على تنفيذه.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.