هجوم غربي لم ينتصر للشعب السوري

هجوم غربي لم ينتصر للشعب السوري

20 ابريل 2018
+ الخط -
كتبت الأسبوع الماضي في "العربي الجديد" (13/3/2018) إن تهديد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمهاجمة النظام السوري انتقاماً من مجزرة دوما الكيميائية المفترضة لم يكن غضبة للشعب السوري المسحوق، ولن يكون انتصاراً له على الظلم الواقع عليه. كما كتبت، أيضاً، إن الشعب السوري، والشعوب العربية، ليس لهم من الأمر شيء، سواء نفّذ ترامب  وعيده، أم قرّر غير ذلك. كان ذلك قبل الهجمات الصاروخية التي شنتها السبت الماضي كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا على ثلاث منشآت سورية، واحدة في منطقة دمشق الكبرى واثنتان قرب حمص، قالت الدول المهاجمة إنها تستخدم لتطوير الأسلحة الكيميائية وتخزينها. واليوم، وبعد أن أصبح الهجوم واقعاً، فإن مجريات الأحداث تؤكد صواب ما ذهب إليه ذلك المقال.
مباشرةً، بعد توارد أخبار الهجوم الكيميائي المفترض، في السابع من إبريل/ نيسان الجاري، وبعد بث الصور المروعة لضحايا مدنيين أبرياء، غرّد ترامب عبر "توتير" متوعداً "الحيوان" بشار الأسد بدفع "ثمن باهظ". استلزم الأمر أسبوعاً لشن الهجوم الانتقامي، لم يتردّد خلالها ترامب عن التغريد، مرة أخرى، ملمحاً إلى اقتراب موعد الضربة العسكرية المرتقبة. والمفارقة هنا أن النظام استغل تلك الفترة لنقل أسلحة وعتاد عسكري وطائرات حربية إلى قواعد عسكرية روسية على الأراضي السورية، معلوم أنه لن تشملها ضربات غربية. وعند بدء الهجوم في ساعات الصباح الباكر، يوم السبت الماضي، اكتفت الصواريخ المائة وخمسة المنطلقة من سفن حربية في البحر الأحمر ومقاتلات نفاثة، بالمنشآت الثلاث فحسب.
لم يكن ثمن استخدام النظام السوري المفترض للسلاح الكيميائي في دوما باهظاً، كما توعد
 ترامب. وكان لافتاً تأكيد مسؤولين عسكريين أميركيين، بدءاً من وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ومروراً برئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إن هدف الضربات إضعاف قدرة النظام على شن هجمات كيميائية أخرى، وليس تغيير المعادلات العسكرية على الأرض، أو حتى تقويض قدرته على شن هجمات عسكرية تقليدية قاتلة. إذن، كان الهدف من "الضربة الواحدة"، كما وصفها ماتيس، إيصال رسالة إلى النظام السوري بعدم استخدام السلاح الكيميائي مرة أخرى. هذا بالضبط ما قاله ماتيس، وكان هذا تماماً هو الهدف من الهجوم على مطار الشعيرات السوري العسكري في أبريل/ نيسان 2017، بعد قصف النظام بلدة خان شيخون في ريف إدلب بغاز السارين، ما تسبب بسقوط عشرات من القتلى والمصابين. الأمر الآخر اللافت، أن المسؤولين العسكريين الأميركيين لم يجدوا حرجاً في تأكيد أن الهجوم الغربي لم يدمر البرنامج الكيميائي السوري برمته، كما أنهم لا يعتقدون أن مجزرة دوما ستكون الأخيرة التي قد يستخدم الأسد فيها السلاح الكيميائي ضد أبناء شعبه.
النظام السوري، وداعماه الإيراني والروسي، كانوا مدركين منذ البدء محدودية الأهداف الأميركية. إنها قرصة أذن لا أكثر ولا أقل. ألم يقل الأميركيون جهاراً نهاراً إنهم لا يريدون إسقاط الأسد، بل ولا حتى ضعضعة وضع قوات نظامه عسكرياً على الأرض؟ وإذا ما رام أحد دليلاً على ذلك سيجده في إعلان القيادة العامة لجيش النظام السوري، في يوم الهجوم العسكري الغربي، إخلاء الغوطة الشرقية من كل مقاتلي فصائل المعارضة السورية المسلحة، بعد خروج آخر مقاتل منهم باتجاه شمال سورية. ثمَّ إن وزارة الدفاع الأميركية أكدت، بلغة أقرب إلى المباهاة، بأن لا عنصر عسكرياً روسياً ولا إيرانياً، ولا حتى محسوباً على النظام السوري، سقط ضحية في القصف الغربي. لقد سمحت إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، للنظام، بدعم روسي - إيراني، بخنق المعارضة السورية ومئات آلاف المدنيين في ريف دمشق سنوات طويلة، ثمَّ جاء ترامب وأكمل المهمة، بعد أن قطع كل دعم عسكري عن مقاتلي المعارضة السورية من العرب، وهو ما مكّن النظام من قلب المعادلات العسكرية جذرياً على الأرض لصالحه. ولأن الأسد يدرك أن كرسيه ليس هدفاً أميركياً، ولأن نظامه يعلم أن الأمور على الأرض تسير لصالحه، فإن ردهما جاء في اليوم التالي للهجوم بـ "صباح الصمود" الذي ظهر فيه الأسد على شاشات التلفزة يدخل إلى مكتبه واثقاً منتشياً بما يحسبانه نصراً.
لا تعني الولايات المتحدة دماء الشعب السوري أبداً، وكان أوباما قد استثنى الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في سورية من ما وصفها "المصالح الأساسية" للولايات المتحدة التي تستلزم توظيف "عناصر القوة" الأميركية كلها. وترامب اليوم، وعلى الرغم من انتقاداته المتكررة للسياسة الخارجية لأوباما، إلا أنه لا يبتعد كثيراً عنها في سورية. تحصر إدارته، كما كانت إدارة أوباما، استراتيجيتها في سورية في أمرين: هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، مع ضمان عدم عودته إلى السيطرة على المناطق التي خسرها في العراق وسورية. والقضاء على سلاح سورية الكيميائي والتخلص كلياً من قدرة النظام على تصنيعه سلاح ردع استراتيجياً. أما ماذا يجري في سورية بعد ذلك، فهذا ليس ضمن الأولويات الأميركية، اللهم إلا حديثاً مبهماً، ربما من باب ذر الرماد في العيون، عن ضرورة إيجاد حل سياسي انتقالي، لا يستثني الأسد بالضرورة. ولمن لم ينتبه، فإنه مدعو الآن إلى الانتباه، إلى أن الولايات المتحدة تفرّق بين قتل الشعب السوري وخنقه بغاز الكلور، وهو الأمر الذي يمكن للولايات المتحدة أن تستوعبه وتسكت عنه، على أساس أنه ليس غازا ساما متطورا، وما بين استخدام غاز سام 
متطور، كالسارين، الذي لن تقبل به الولايات المتحدة، على أساس أنه "خط أحمر"! ولذلك تقر السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، أن تقديرات واشنطن تفيد بأن النظام السوري استخدم غازات سامة، خمسين مرة على الأقل، وربما تصل إلى مائتين، منذ اندلاع الصراع في سورية قبل سبع سنين. ومع ذلك، فإن التهديد الأميركي، تحت إدارة أوباما، باستخدام القوة رداً على استخدام النظام غازات سامة، كما في عام 2013 بعد مجزرة الغوطة الشرقية، أو استخدامها فعلاً، تحت إدارة ترامب عام 2017، بعد مجزرة خان شيخون، إنما جاءا بناء على افتراض استخدام السارين. وحدث الأمر نفسه في مجزرة دوما أخيراً. وهو ما ينسحب كذلك على صمت الولايات المتحدة، والعالم، والذي يصل إلى حد التواطؤ، على استخدام النظام البراميل المتفجرة في قتل شعبه وسحقه.
باختصار، كل ما يهم الولايات المتحدة، غير محاربة جماعات إرهابية، هو نزع السلاح الكيميائي الاستراتيجي من سورية، والذي كان يفترض أنه سلاح ردعي في سياق التوازنات الاستراتيجية لصد أي عدوان خارجي، خصوصاً إسرائيلي، فإذا بالنظام يستخدمه ضد الشعب السوري الذي ليس أولوية في المقاربة الأميركية المتوحشة، تماماً كما أن جرائم الروس والإيرانيين والنظام متوحشة. ولا بأس أيضاً أن تكون دماء السوريين وسيلةً لمحاولة تشتيت التركيز على فضائح داخلية أميركية، فثمّة اتهامات لترامب أنه ما تحرك في سورية هذه المرة إلا لحرف الأنظار عن اقتحام ضباط مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) مكتب محاميه الخاص ومنزله، وهو ما ينذر بتحديات قانونية مصيرية لترامب، ليس أقلها التهرّب الضريبي وخرق قوانين التمويل الانتخابي. ومع بقاء انعدام الوزن عربياً، وتوحش أنظمتنا، ستبقى دماؤنا مادة للمزايدات والتراشق بها بين اللاعبين الكبار على ملعبنا، وبنا.