صناعة الخوف وتزييف الوعي في مصر

صناعة الخوف وتزييف الوعي في مصر

11 ابريل 2018

مصريات يلوّحن بأعلام خارج مركز انتخابي بالجيزة (26/3/2018/فرانس برس)

+ الخط -
شعور عام بالخوف يلف المجتمع المصري، بما فيه النظام. لم تكن مشاهد الانتخابات الرئاسية أخيرا سوى نموذج، حاولت السلطة فيه تجاوز الخوف من توقعاتٍ بخفوت المشاركة، فاستعدت بأكبر قدر ممكن من الدعاية، والحشد، في محاولةٍ لتجاوز الرفض المكبوت لدى الناس تجاه السلطة، وسقطت نتيجة ذلك رمزية العملية الانتخابية، واستمر قطار العصف بالحريات ورقابة وسائل الإعلام، ومعاقبة بعضها علنا، مثل صحيفة المصري اليوم وموقع مصر العربية، ومنع بعضهم من الكتابة، وقبض على صحافيين. ويمكن من مشهد الانتخابات الرئاسية الماضية، تحليل ظاهرة الخوف، وكونها أيضا آلية للتحكم وإدارة المجتمع وضبطه.

الانتخابات عنفا معنويا مكثفا
بحكم تقديرات كمية ومشاهدات ميدانية، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية ضعيفة، على الرغم من كل ما بذل من جهود وأساليب، منها استخدام عنف معنوي مكثف، كالترهيب من المستقبل، والتهديد بتغريم المقاطعين مبالغ مالية، أو ترويج إشاعات بمعاقبتهم اقتصاديا، مثل منع صرف الدعم المصروف بموجب بطاقات التموين. تستطيع الدولة، بعنفها المادي، منع التظاهر والمؤتمرات، واعتقال المواطنين، لكن كل هذه الأساليب لا نتيجة لها في المشاركة في الانتخابات، بل على العكس، كلها أسباب تدعو إلى الكفر بالنظام السياسي وآلياته الانتخابية ومقاطعتها.
لم يكن أمام النظام أقوى من سلاح الخوف دافعا للتصويت، وخصوصا أن الدعاية المنطلقة من شرعية الإنجاز لا يلمسها أغلب المواطنين المصريين، كما تعتبر آلية إشاعة الخوف إحدى 
آليات التحكم الرئيسية للنظم السلطوية في إدارة العملية السياسية الرسمية، والخوف أيضا أداة لإحكام السيطرة على مظاهر التفاعل السياسي والاجتماعي خارج النظام. وعلى جانب آخر، يستخدم الخوف من المستقبل، والرعب من البدائل، والفوضى، لكي يتوقف أي نقاش بشأن طبيعة النظام وأزماته، والسياسات التي يطبقها، أو حين يتم الحديث عن ضرورة التغيير.
وقد استخدم الخوف في الانتخابات سلاحا لانتزاع قبول شكلي لا يحظى بتراضٍ، أو إذعان إن شئت توصيفا أدق، بحكم أنه يحمل معنى الانقياد والخضوع.
وبعيدا عن جدل الأعداد المشاركة في الانتخابات، يمكنك أن تسأل وأنت في مواقع العمل، أو مناطق الجيرة، أو بين الأهل والأصدقاء، كم ممن حولك قاموا بالتصويت، وكم منهم ذهب مرغما وخائفا تحت تهديدات مديره المباشر، أو رئيس مجلس الإدارة، أو وكيل الوزارة، خوفا من التحويل إلى التحقيق، أو الاضطهاد، وما يتضمنه من إجراءات حسم من الراتب، أو تأجيل التثبيت، أو الترقية، أو ربما النقل من مكان العمل، يمكنك أن تتساءل عن تصويت المرغمين إذا كان يعد مشاركة. وكم من المصوتين شارك مدفوعا بدعاية الخوف، والتصويت لمصر "السيسي" ضد قائمة المرشحين من أعداء الوطن، كما أوهموا بعضهم، كم قلقا على الوطن شارك لأنهم رددوا أن المقاطعة تهدم الدولة وتقسم الوطن، يتضح إذا تم تقييم العملية التي تمت في إطار مفاهيم المنافسة والاختلاف والمرشحين والبرامج، وبيئة الانتخاب، سنخرج بنتيجة واضحة، موجزها أنه لم تكن بهذا المعنى انتخابات أصلا.
يمكنك أن تحلل سريعا نسب المصوتين، حسب الأرقام الرسمية للجنة الوطنية للانتخابات، لتكتشف أن الأصوات الباطلة زادت عن مليون صوت، وهي نسبة كبيرة بالنسبة للأرقام الرسمية، ما يؤشر إلى أن تلك الأصوات إما نتاج رفض، أو أن أصحابها تم إرغامهم على المشاركة بدوافع الخوف، فأبطلوا أصواتهم.

الخوف والجسد السياسي
بمقاربة إنثروبولوجية، الخوف علامة ظاهرة على الجسد السياسي للمجتمع، وأحد مصادره ما تبثه المؤسسات الرسمية للمواطنين، والخوف كشعور مستهدف تريد السلطة عودته، لأن ثورة يناير ساهمت في تكسيره، وتحرير المواطنين منه، وهو الذي كان أسلوب حياة، مقيد لحرية حركة الأفراد، والمجتمع، بل يقيد الخوف نمط التفكير. وإذ كان النظام يستطيع إحكام سيطرته على جسد المجتمع وأفراده بالسجن أو الحصار، فإنه يقيدهم داخل خوفهم أحيانا أخرى، لأنه بالخوف تتعطل إرادة الناس واختياراتهم الحرة، ويصبحون في وضعية إذعانٍ وخضوع أكثر ربما من أجساد السجناء خلف القضبان.
يتجسّد الخوف ويظهر في وسائل الإعلام، وخصوصا في مناسبات أو أحداث كالانتخابات. ولا يكتفي رؤساء تحرير صحف تحاول الحفاظ على مساحة من الاستقلالية عن السلطة والموضوعية، والقائمون عليها، وأصحابها، بوضع ضوابط ذاتية، تعفيهم عن مسألة الرقيب الأمني، أو معاتبة مسؤول هنا وهناك، أو تهديد هيئات، مثل مجلس النواب.
يعترف أغلب الصحافيين في مواقع التنفيذ والإدارة بأنهم أصبحوا يضعون أنفسهم تحت رقابة ذاتية، فمؤسساتهم لا تكتفي برقابة السلطة، وتخشى بطشها إلى درجة أنها تذهب إلى الرقابة الذاتية، موقفا بديلا عن التدخل في سياسة التحرير. بجانب ذلك، يوجد مندوب أو أكثر لكل جهة أمنية في كل صحيفة، لا يخجل بعضهم من أن يعلن، إلى جانب مهنته صحافيا، أنه يتبع الجهة الفلانية. يحكي أحد أصدقائنا أن واحدا منهم صغيرا في السن، لكن معظم العاملين في الصحف يعاملونه، تحت وقع الخوف، وكأنه في مقام رئيس التحرير. يشتاط زميلنا من هذا الواقع الأليم، ويتذكّر كيف كان جيلنا الذي تفتح مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ينقل أحداث الاحتجاج، ومظاهر الحركة الاجتماعية التي تدافع بروافدها عن حقوق المقهورين، وتضم في يومياتها احتجاجات العمال وطلاب الجامعات والحركة الطلابية. لم يعد اليوم محمودا أن تنشر الصحف أخبار المظلومين، المحتجين، وترفع مطالبهم، بدأت تتوارى أخبار الاحتجاج الاجتماعي من الصحف، وأصبحت هناك قوائم طويلة، لا تستضيفها وسائل الإعلام، ولا تتحدث عنها الصحف. أترحم ورفيقي الذي قارب أن يترك الصحافة لصالح الأدب، على دور جيل من المشتغلين في الإعلام والبحث والمجتمع المدني، كيف تضيق بهم سبل العيش والحرية معا. نلجأ إلى الذكرى اليوم، عن الحركة الاجتماعية، على الرغم من سقف الحركة والحريات المحدود أيامها تحت حكم حسني مبارك، لكي نتحصّن بها، لأن الذكرى وتجارب الشباب من أجل التغيير، أصبحت ملجأ فرحا للمحبطين، وتذكرة بالنصر للمهزومين، ومقاومةً بالأمل للمحبطين.

الخوف من أدوات الإنتاج إلى الأرباح
جوانب عدة للخوف، ومظاهر متنوعة نتاج الرقابة السلطوية، والرقابة الذاتية، رقابة لمجمل 
التفاعلات الاجتماعية في المجتمع، حوارات المقاهي، الشوارع الجانبية، دردشة الأصدقاء في جلساتهم الأسبوعية، وسهرات يوم الخميس، في نادٍ أو مقهى، أو تجمعات الأصدقاء بعد انتهاء الصلاة، تجمعات الموالد، والمناسبات، ومباريات كرة القدم، وما تبقى من حركة طلاب الجامعات وأنشطتهم، والحركات النقابية، والشبابية والحزبية، وحتى مجموعات النقاش على "فيسبوك".
ثلاث وقائع عملية يمكن النظر إليها وتحليلها من واقع أزمة السلطة التي لا تحتمل إعلان الحقائق، وتفرض رقابتها من أجل استدامة الكذب الذي يساهم في تزييف الوعي، وخداع المجتمع. اشتدت قبضة الأمن على الصحف بشدة، وقت إجراء انتخابات الرئاسة. لم يكتف جنرال الصحافة، مكرم محمد أحمد، بتصريحاته وألفاظه التي لا تليق بمن في سنه، ولا تاريخه الصحافي والنقابي، بل عمد، في ختام عمره، إلى مزيد من التنازلات، ليمثل أداة بطش وعقاب لكل من يناقش أو ينتقد السلطة، أو حتى ينقل الحقائق. حوّل مكرم، عبر مجلسه العقابي والرقابي المسمى "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام"، رئيس تحرير صحيفة "المصري اليوم"، محمد السيد صالح، إلى التحقيق معه نقابيا، بينما غرّم الجريدة 150 ألف جنيه، بسبب مانشيت "الدولة تحشد"، وهو أمر غاية في الغرابة، فالعنوان عادي جدا، لم يات بجديد، ولم يمثل سوى الحقيقة التي يعرفها الجميع، لكن الدولة ومؤسساتها اعتبرته تهمةً، تستحق العقاب، من منطلق أن قول الحقائق في مصر يستدعي العقاب. وعلى الرغم من أن "المصري اليوم"، وصحف أخرى، لم تتبع المشهد بكل تفاصيله، بما فيه حالة الرشاوى الانتخابية، من مواد غذائية تستغل حاجة الفقراء في مناطق بائسة، أو استئجار محترفي الانتخابات، والمواكب والحشد، والمشاجرات، وكذلك العاملين في أدنى وظائف في السلم الأخلاقي، أو تجميع فتيات ونساء أمام اللجان، لزوم ما يلزم.
وفى السياق نفسه، تأتي واقعتان: الأولى، هجوم بعض أنصار أجهزة الأمن على رئيس تحرير صحيفة الشروق، عماد الدين حسين، والتي يصنفونها صحيفةً مناوئة للدولة، تضم أصوات متعاطفين مع "الإخوان المسلمين". وتعتبر دوائر من دراويش عبد الفتاح السيسي "الشروق" صحيفة "إخوانية"، على الرغم مما تلقاه عماد حسين من هجوم من الدوائر نفسها التي تدّعي أصوات الاستبداد أنه يصطف معها. كما شهدت صحيفتا "المصري اليوم" و"الشروق" حالات منع مقالاتٍ نتاج الجو العام، وما يتضمنه من ضغوط شديدة تمارسها السلطة، ودوائر اقتصادية، تتحكّم في عالم الصحافة والنشر، وتحافظ على مصالحه. فقد منعت، مثلا، مقالات لحسام السكري، ومحمد الأمين. ومنعت مقالات عبد الناصر سلامة في "المصري اليوم"، وغيرهم من الكتاب الذين منعوا من الكتابة في صحف أخرى. ولذلك، أن تتولى رئاسة تحرير صحيفة مصرية في هذا التوقيت مهمة صعبة وثقيلة.
الواقعة الثانية، استمرار القبض على شباب صحافيين، من مؤسسات صحافية رسمية، أو لهم منصات شخصية، فقد تم أخيرا القبض على محمد إبراهيم رضوان الشهير بأكسجين، وهو مصور صحافي حر سجلت كاميرته لقاءاتٍ مع عدة شخصيات مصرية معارضة، منهم الكاتب الاقتصادي عبد الخالق فاروق، ومعصوم مرزوق. ولكليهما مواقف حادة ضد ممارسات النظام على مستويات متعددة، أبرزها السياسات الاقتصادية والسياسة الخارجية والاستبداد، وكلاهما عضو في الحركة المدنية الديمقراطية. وفي السياق، تم القبض على رئيس تحرير موقع مصر العربية، ورئيس تحرير صحيفة الوفد سابقا، عادل صبري، بتهمة نشر تقارير إخبارية كاذبة عن الانتخابات الرئاسية.

الخوف مقاربة اقتصادية
يمكن القول إن شعور الخوف يسيطر على المجتمع المصري ككل، أفرادا ومؤسسات مدنية وسلطة. وبمقاربة اقتصادية، تحافظ السلطة على رأسمال الخوف، وتدعم أدوات إنتاجه، من 
قمع، وحصار وحجب، وتنتجه ليعود مرة أخرى يغرق المجال العام. ينتج الخوف لكي يستهلكه الجمهور ويعتاش عليه، ويعود مرة أخرى حاضرا، بعد أن كانت فرقته ثورة يناير في العام 2011 عن المجال العام فترة قصيرة. للخوف أيضا أدوات مؤسسة منتجة له، ليس القمع الخشن الأمني وحده المتصدر، ولكن هناك ضرورة للدعاية باعتبارها إحدى وظائف الدولة في النظم السلطوية التي يتحكم فيها الفرد ومجموعات المصالح المتحلقة حوله. ولا تستقيم الدعاية في النظم السلطوية إلا بالخوف، وادعاء المؤامرات على الوطن، والزعيم القائد، وإنه لا بد من حماية البطل من أعدائه أعداء الوطن. وهذه الدعاية قديمة وتاريخية، وتجسّدت حديثا في النظم الديكتاتورية.
ومصادر الخوف الذي يسود المجال العام في مصر متنوعة، من وسائل إعلام خاص وعام، تحاول استبدال الحقائق بصور مصنوعة، تحجب وتمنع، وتحاصر كل صوت أو وسيلة تنقل الحقائق كما هي. الكذب مع الخوف هنا غرضهما تزييف الوعي، وأن يسود الإذعان وشعور الخوف والإرهاب النفسي المجتمع. مطلوب أن يعود المصريون، وخصوصا العاملين والمهتمين بالمجال العام والمرتبطين به، إلى مربع الخوف من المستقبل، وبطش أيادي السلطة، الخوف من التعبير والحركة. ويستخدم الإكراه في مواقف متعددة تحت وقع الخوف، تصنع مشاهد التصويت، أو التأييد، ويصنع الكذب حين يتم إخفاء جزء من الحقائق، وإظهار جانب آخر من خلال وسائل الإعلام.
وهناك أغراض لإنتاج الخوف، أبرزها الرجوع إلى مربع ما قبل الأمل، ويستهدف رعاة إنتاج الخوف من مؤسسات الدولة أو مجموعات المصالح تحقيق أرباح سياسية، وأخرى اقتصادية، ترتبط ببقاء الوضع كما هو عليه.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".