الزعامة في زمن المؤسسات

الزعامة في زمن المؤسسات

08 مارس 2018

انقسام بشأن زعامة حزب العدالة والتنمية المغربي (2/9/2015/فرانس برس)

+ الخط -
يُفْرِز الصراع السياسي القائم اليوم في المغرب مجموعة من الظواهر التي تبتعد كثيراً عن الطموحات السياسية التي ترفعها النخب المنخرطة في أتونه، وهي تتطلع إلى بناء ثقافة سياسية جديدة، متوخيةً من ذلك تعزيز المساعي الهادفة إلى بناء مجتمع ديمقراطي.
من يُتابِع المشهد السياسي المغربي، في الأشهر الأخيرة خصوصاً، سواء في مستوى آليات عمل النظام السياسي، أو في الأوجه والمستويات الأخرى، المتمثِّلة في تمظهراته الحزبية وصور تطوُّرها وتفاعُلها، مع المجتمع ومع النظام السياسي في بلادنا، يقف على مظاهر أخرى من الصراع، من قَبِيل استمرار الاحتجاجات في أكثر من جهةٍ من جهات المملكة، وخصوصاً في الشمال والشرق، حيث ترفع شعاراتٌ اجتماعيةٌ وسياسية محدَّدة، كاشفةً مظهراً آخر من مظاهر تعقد المجال السياسي، الأمر الذي يثير إشكالات عديدة، بعضها يتصل بنمط التعثُّر الذي تعرفه خطوات التحوُّل الديمقراطي في المجتمع المغربي. وبعضها الآخر يرتبط بنمط النموذج الاقتصادي الذي تسير على نهجه البلاد، حيث يواجه المجتمع اليوم أنماطاً من الخَلَل المركَّب في السياسة والاقتصاد.
لا أحد يشك في صعوبة التحديات التي تقف أمام مشروع المغرب، في مجالات بناء مشروعه
 الديمقراطي، في تفاعل إيجابي مع ما راكم من تجارب، فيما أصبح يُعرف بالعهد الجديد، أي منذ سنة 1999، حيث انخرط المغرب في بناء أسسٍ جديدةٍ للعمل السياسي، عزّزتها جملة من المعطيات المترتِّبة عن معارك ما أصبح يعرف بالربيع العربي، بما له وما عليه.. ولا شك، أيضاً، في خطورة التحديات التي ما زال يواجهها مجتمعنا في قضايا التنمية والتشغيل، في علاقاتهما المتشابكة مع مجالات التربية والتعليم والإدارة، إلا أن حِدَّة الصراع في مختلف المجالات، التي أشير إليها مثالاً لا حصراً، تؤدي أحياناً إلى تبلور خلافات وصراعات داخل الأحزاب، مثلما هو حاصل اليوم في أغلبية أحزاب المشهد السياسي المغربي، بأغلبيته ومعارضته، الأمر الذي أصبح يتطلّب مرونةً كثيرة في مواجهة معضلات التحوُّل القائمة، وكثيراً من الشجاعة والإقدام في الآن نفسه. ولعل الذين تابعوا الصراعات التي ترتَّبت عن تشكُّل الأغلبية الجديدة بعد انتخابات 2017، أدركوا أن نظامنا السياسي لا يقبل تخطّي جملة من المبادئ المتوافَق بشأنها، حتى عندما لا تكون مُعْلَنَة أو موثقة أو حتى مصرَّحاً بها.
علامات الانقسام داخل حزب العدالة والتنمية، حتى وإن لم ينتج عنها انقسام الحزب اليوم أو غداً، فإن أماراتها أصبحت بادية، والارتكاس الحاصل في موضوع الزعامة وشخصنة القضايا موضوع الخلاف داخل الحزب، وفي علاقة الحزب بالأغلبية التي تقود أجهزة الدولة اليوم، يشكِّل خطوة إلى الوراء، أمام مجموعة من التقاليد التي استأنس بها العمل الحزبي في السنوات الأخيرة.
نفترض أن زمن الزعامات انتهى، قياساً إلى ما كان عليه المجتمع المغربي في أربعينيات القرن الماضي، من حيث درجة الأمية وأنماط الوعي السياسي المتداولَة، الأمر الذي اقتضى أن يكون الزعماء من الأطر السياسية المُلِمَّة بمعطيات تاريخية واجتماعية وقانونية كثيرة، تؤهلهم ليكونوا في مقدمة التنظيمات السياسية، والفئات الاجتماعية الهادفة إلى بناء حركة استقلالية في 
المغرب. أما اليوم فإن سيادة لغة الزعيم القادر وحده على المجابهة، القائد المتشبع بآليات الشعبوية في أثناء مواجهته قضايا المجتمع والتنمية، فإنها تعود بنا إلى تنظيمات الزوايا، مع إضافة المزايا الجديدة التي أصبحت تتيحها الوسائط الاجتماعية، حيث يصطف المريدون أمام من يملك وحده مهارة الخطابة والتواصل والعزف على شعارات تجعل الجماهير تنتظره.
يختفي مفهوم الزعامة والزعماء، في تقدير صاحب هذه السطور، لِيَحُلَّ محلَّه مفهوم القيادات الجماعية والمؤسسات وأصحاب الرأي، ثم القوانين والإجراءات التنظيمية، حيث يساهم الجميع في عمليات الإضاءة والتنوير وبناء المواقف. وإذا كانت النزعة الشعبوية قد اتخذت مظهراً طاغياً في السنوات الأخيرة، حيث عَمَّت أحزاباً كثيرة في فضائنا السياسي، وملأ ضجيجُها فضاءات الوسائط الافتراضية، فإننا نتصوَّر أنها لن تعمِّر كثيراً، وأن جذوة اندفاعها واللغة التي ترافع بها في الأطوار الانتقالية من التاريخ، مثل ما هو عليه الحال في مجتمعنا اليوم، سرعان ما ستصبح باليةً وغير مجدية، وخصوصاً في مجتمعاتٍ تعاني من إشكالات تاريخية كبرى، مجتمعاتٍ تُواجهها تحدياتٌ لا تنفع فيها الشعارات. وأما قضاياها في التنمية والتشغيل والصحة والتعليم، فإنها لا تتطلب مسكِّناتٍ وقتية، بل تتطلع إلى بناء روافع جديدة في الاقتصاد والثقافة والتنمية.
نتصوَّر أن المأسسة في تجارب الحكم الديمقراطي تُعَدُّ مناسبةً للقطع مع نظام التقليد، إنها أفق لتركيب مقتضيات مجتمع التحديث السياسي، مجتمع القوانين الضابطة لمختلف أشكال التدبير السياسي في المجتمع وداخل الأحزاب. وكما أن المأسسة تعتبر من مؤشرات المواطنة، فإن آثارها الفاعلة في واقع الحياة السياسية والحزبية تتمثل في أشكال التنظيم التي يتخذها المجال السياسي، بما في ذلك تدبيرها صور الخلاف والاختلاف فيما بينها.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".