دمي ودموعي

دمي ودموعي

07 فبراير 2018

حملة ضد ختان الفتيات في مصر (توتير)

+ الخط -
لا يمكن أن أنسى ما حييت مشهداً رأيته في قلب ليل القاهرة، في ثمانينيات القرن الماضي، وقد ارتعدت فرائصي رعباً من المشهد الذي حدث في شرفة البيت المقابلة لشرفة البيت التي كنت أقف فيها، وأنا مراهقةٌ تتأمل الليل والنجوم وتمثال أبي الهول الذي يظهر من بعيد، ويشعرك بعظمة تاريخ الشعب الذي يستضيفني مع عائلتي. ولكن بدا لي، في تلك الليلة، أن الحضارة المصرية  القديمة جلبت الغبن لبنات جنسي، والدليل ما رأيته في الشرفة، وقرأت عنه بعد ذلك، وأصابني بصدمة، وألقى على رأسي بألف سؤال، وكنا وقتها في الربع الأخير من القرن العشرين، واعتقدت أن العلم لن يبلغ ما بلغه، كما فعل نيوتن حين صاح منتصراً لاختراعه المصباح الكهربي، معتقداً أن العلم سيقف عند اختراعه، ولن يتجاوزه باختراعات كثيرة مدهشة.
وهكذا حل الخوف مكان الدهشة، وأنا أرى طفلة  في العاشرة من عمرها يتم تقييد حركتها من امرأتين ضخمتين، إحداهما أمها، وتتعامل ثالثة مع نصفها السفلي بعنف وقسوة، وهي تمسك بآلة حادة. وفيما يتعالى صراخ الصغيرة، ويقطر الدم على أرضية الشرفة، فأراه لامعاً قاتماً، على الرغم من الظلام المخيم، إلا أن الزغاريد كانت تنطلق من حنجرة الأم بالتحديد، وتركت البنت في مكانها لوقت قصير، ثم لم يلبث أن جاء رجل قوي البنية، حسبته والدها فحملها، ودخل بها إلى البيت، فيما كانت هي بلا حراك، وكنت واثقةً أنها لم تعط أي مخدّر، لكنها فقدت الوعي من شدة الألم.
لم يمح هذا المشهد من مخيلتي وذاكرتي، خصوصا أن الطفلة قد اختفت من الحي عدة أيام، وكنت ألحظ صمتاً مشوباً بقلق يعم أرجاء بيت عائلتها، واختفت صوت ضحكاتها ومشاكساتها مع إخوتها التي كانت تصل إلى مسامعي، وترغمني على استراق النظر نحو شرفة البيت، حيث وجه الطفلة المستدير، وشعرها المعقوص إلى الخلف بتجعيداتٍ محببة من الأمام. وهكذا افتقدت الطفلة أياما كثيرة، حتى لمحتها تسير بتؤدةٍ محنية الظهر، ثم تختفي، وكان ذلك في الإجازة الصيفية، فلم تكن تذهب إلى المدرسة. ولذلك لم تخرج من البيت، حتى سمعت صراخاً في الليلة العاشرة لغيابها، وعرفت أنها قد ماتت، وتوافد المعزّون والمعزيات إلى البيت في الصباح. وفي المساء، كان كل شيء قد انتهى.
لم أنس، كما قلت، وجه هذه الطفلة. وعلى الرغم من أنني لم أعرف اسمها إلا أنني ناديتها في مناماتي ورأيتها كثيراً. وكنت أحاول نجدتها في كل مرة، لكن المرأتين الضخمتين كانتا أقوى مني، حتى تعاظم وكبر شعوري بكراهية جسدي الأنثوي الذي لا أستطيع الدفاع عنه أمام العادات والتقاليد والمعتقدات، كما حدث مع الطفلة المصرية.
إذا كانت الأمم المتحدة قد حدّدت يوماً عالمياً لعدم التسامح، إزاء تشويه الأعضاء الأنثوية، فأنا قد حدّدت كل أيامي لعدم التسامح مع كل من يشوّهون براءة البنت، ويدّعون أنها مصدر الزلل والعار، سواء من يمارسون ختان الإناث، بأشكاله وأنواعه، أو من يدافعون عنه. وبالعودة إلى أصل هذه العادة التي لم تنقرض، على الرغم من كل المحاولات للقضاء عليها، نجد أن هناك من يسوّقون لها، ويحرصون على استمرارها، وهؤلاء باختصار تجار اللحم الآدمي الذين ينتفعون من وراء إجرائها، سواء المختنون الشعبيون، أو الأطباء المشاهير الذين يفتحون عياداتهم، ويروّجون بين مرضاهم أنهم يجرونها بأمان وسرية، فيما تسجل كل عام حالات وفاة كثيرة لفتياتٍ صغيراتٍ توفين على يد مختنة جاهلة، أو طبيبة حاذقة، ومنهن على سبيل المثال فتاة السويس ميار، التي حاولت أمها التستر على المستشفى والطبيبة، ودافعت باستماتةٍ عن هذه الممارسة الوحشية التي أودت بحياة طفلتها، ونجت منها شقيقتها التوأم.
السبب الثاني والأهم في عدم القضاء على هذه العادة هو ممارسة الختان الفرعوني الذي يقدم الأنثى كأنها علبة من الحلوى المغلفة التي لا يفتحها إلا من يدفع أعلى سعر. وهكذا تضيع الجهود العالمية، وتبقى مجرد شعاراتٍ، وتسيل دماء البريئات، وتبقى الدموع في مآقي الناجيات.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.