قلب أمي

قلب أمي

10 مايو 2017
+ الخط -
عندما تريد إحداهن أن تعبر عن حبها لابنها تكتفي بعبارةٍ متقضبةٍ، وهي أن القلب قد رآه قبل العين، فكيف لا تحبّ من رآه القلب، وهذا هو جواب الأمهات عن سرّ حبهن العظيم لأبنائهن، وهو ليس سرّاً بقدر ما هو مسلّمةٌ، مثل مسلمات الرياضيات، فلا قابلية للنقاش والاعتراض على مرآة قلبها، كيف وهو الذي نما في تربة رحمها، وتغذّى من دمها، فلم تذهب الدراسات العلمية بعيداً، ولم تأت بجديد حين توصلت إلى ما يؤكد أن الطفل الذي يولد ولادةً طبيعيةً تربطه بأمه علاقة أقوى من علاقة الطفل الذي ولد بعمليةٍ قيصريةٍ بأمه. ومن هذه الدراسات دراسة أجريت في جامعة ييل الأميركية. وإن كانت هناك إحصائية مؤكّدة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونسيف) تفيد بأن الأم الفلسطينية هي صاحبة أعلى نسبة في الولادات الطبيعة بين نساء العالم، ولذلك فارتباطهن بأولادهن أقوى من كل نساء العالم أيضاً. 
وبكثيرٍ من الخصوصية لأمهات فلسطين اللواتي يعانين وحدهن الوجع في خيم الاعتصام، تضامناً مع أبنائهن الأسرى المضربين عن الطعام، فهن أنفسهن من تحمّلن مرارة التهجير إبّان نكبة فلسطين في العام 1948، وهن اللواتي زرعن الأرض في غياب الزوج، إما مناضلاً مطارداً أو أسيراً أو شهيداً، فغالباً ما كان يتدحرج الجنين من رحمها فيلفّه تراب الأرض المحروثة، فيكبر بطلاً، لأنه تربّى بين أحضان بطلةٍ تغضّن جبينها من التعب، ودموعها أوجعت السماء.

وكيف لا يزيد هذا الحب لابنٍ بعيد، جذبته يد السجان في ليل أو نهار من فراشه أو من أمام مائدة طعامه، وفي لحظةٍ غاب عن الدار، كيف لا يكون الحب للغائب حتى يعود أو حتى تغيب الأم عن الحياة، كما حدث مع أم الأسير محمد دلايشة، والتي لم يحتمل قلبها فكرة أن ابنها يحيا على الماء والملح، وهو المحكوم عليه بالسجن أربعة وعشرين عاماً، وقد توفي أبوه وهو في السجن أيضاً، فماتت وهي تجلس في خيمة الاعتصام في مخيم الجلزون للاجئين، وقد كانت تتأمل صور ابنها الأسير المعلقة على زوايا الخيمة. وبالقطع، كانت تتخيله واهناً ضامراً، بسبب إضرابه عن الطعام، وتترقب أخباره، فلم يحتمل قلبها فانهار. وحيث قالت إحدى الأمهات المتضامنات مع أولادهن إنها لم تأكل طعاماً ساخناً منذ أضرب ابنها عن الطعام، فيما تقول أخرى، وابنها قد ارتقى شهيداً، ولا زالت جثته محتجزةً في ثلاجات الموتى الإسرائيلية، إنها تكره أن تفتح الثلاجة في بيتها، لأنها تتذكّر ابنها الشهيد المحتجز في ثلاجةٍ، حيث يغمره الثلج، وأن الشوق يقتلها لكي تحتضن جسده الذي فارقته الحياة، وتضعه في التراب بيديها، لكي تتأكد أنه لن يعود.
وكيف لا يتعاظم هذا الحب والارتباط بابنٍ بعيدٍ، لا يجد حيلةً ليعود إلى وطنٍ محاصر، وتظل روح أمه معلقةً في انتظاره. وهي تردّد: لن يدفنني إلا ابني مجدي، وظلت هذه الأم على هذه الحال شهـوراً طويلة، حتى فتح معبر رفح، متنفس غزة الوحيد، فعاد ابنها الغائب من لندن، والذي ظل شهوراً ينتظر في القاهرة، على أمل أن يمهل القدر أمه حتى يعود، فوصل فعلاً إليها، وتأملته وتأملها أربع ساعات، حتى فاضت روحها، وواراها الثرى بنفسه كما تمنّت.
إنهن أمهات فلسطين الموعودات بالفقد والبعد، ولكن أرواحهن القوية تتحدّى الاحتلال، وفي كل موقفٍ يصنعن حكمة، وفي كل محاولةٍ من المحتل البغيض الذي اغتصب طفولة أبنائهن، واقتنص شبابهم، تبقى قويةً وتردّ الصاع صاعين، وتجرح بلسانها غطرسة السلاح، وتواجه جبروت القوة التي سرعان ما تنهار حين ينادي أحد السجانين على الأم الذاهبة إلى زيارة ابنيها في المعتقل، وهي أم الأسيرين نائل وعمر البرغوثي، وقد توفيت أمس الثلثاء. وبسبب عدم تمكّنه من اللغة العربية، ولفظ حرف "الحاء"، وخصوصاً أن اسمها الحقيقي "فرحة"، فيناديها بلفظ "فرخة"، فتردّ عليه: هذه الفرخة "والمقصد الدجاجة" قد أنجبت ديوكاً، ليقضوا مضجعك أنت وأبوك.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.