في الوَأْدِ الذاتيِّ لآمالنا وطموحاتنا

في الوَأْدِ الذاتيِّ لآمالنا وطموحاتنا

16 فبراير 2018
+ الخط -
مع الفوضى العارمة التي دخلناها، نحن العرب، في مرحلة ما بعد الثورات العربية التي انطلقت أواخر عام 2010 ومطلع 2011، عادت لغة اليأس والحَطِّ من الذات، لتسيطر على خطاب كثيرين منَّا، على أساس أننا لا نستحق الحرية، لا جينياً ولا ثقافياً، وأن الأصل فينا أن نبقى موضوعا للاستبداد  واغتصاب الإرادة. هذا المنطق في التفكير (أو اللامنطق) حاضر فعلا في الخطاب العربي الشعبيِّ اليومي، بل إنه يمضي أبعد من ذلك في لعن فكر الثورة والتمرد على الظلم والطغيان، فلولاه لما نزل القتل في ساحاتنا، ولما لحق بها الدمار.
مبدئيا، يمكن نقد أسلوب التفكير السابق من ناحية أنه ينزع الإنسانية عن المواطن العربي، غير أن المشكلة أن المواطن العربي نفسه هو من يمارسها بحق ذاته، ولكن تفكير المواطن العربي ما كان له أن يتردّى إلى هذا الدرك الأسفل من البؤس، لولا تجريعه اليأس تجريعا. الواقع الآسن الذي نعيشه اليوم، على مستوى تفكير كثير من شعوبنا، هو نتيجة تيئيس مبرمج، لا يأس أملته الظروف. إنه نتاج تخطيط خبيث من عصاباتٍ في الحكم، لم ترفض فقط فكرة الإصلاح، بل أطلقت عملية انتقام ضد شعوبها ودولها، متحالفة، في أحيان كثيرة، مع الأجنبي، تحت عنوان: "تدفيع الثمن". المهزلة أنك لا تزال تسمع، من بعض من يصنفون نخبة، أن الثورات، التي هي بالنسبة لهم فوضى أو مؤامرة إمبريالية أو فارسية أو عثمانية أو خليجية أو إخوانية (تتنوع هوية المُتَّهَمِ حسب هوية المُتَّهِمِ الذي هو عِلْمانِيٌّ وَدِينِيٌّ، يساريٌّ وليبراليٌّ).. لا تزال تسمع منهم أن الثورات سبب كل مصائبنا، وكأننا كنا نعيش في ازدهار واستقرار وأمن وأمان، ثمَّ أننا، نحن الشعوب، عضضنا اليد التي كانت ممدودة لنا. ومن أسفٍ، فإن كثيرين في شعوبنا تبنوا هذه الحَبْكَةَ الخبيثة، وأصبح التأريخ لكارثتنا عربيا، يبدأ من يوم خرج العربي إلى الشارع، مطالبا بحريته وكرامته وحقوقه، فالأصل أن نبقى عبيدا للحاكم المطلق والفاشل الذي لا ينبغي أبداً أن يُسْألَ عمَّا يفعل.
وانطلاقا ممَّا سبق، يندرج أحد سياقات قراءة الكوارث الجارية في بلدان كسورية واليمن وليبيا، من زاوية، ضمن خطة "تدفيع الثمن" للشعوب التي تجرأت على قول لا لطغاتها. ثمَّ تطور 
الأمر، مع مرور الوقت وفقدان الأنظمة زمام المبادرة وانهيار المناعات الوطنية، إلى أن أصبحت ساحات حروب إقليمية ودولية بالوكالة. الأخطر أن الصراعات في تلك الدول تحولت، في مقاربة أنظمة عربية أخرى، إلى فرص استثمارية في الاستبداد، ومن ثمَّ تراهم يمولون الفوضى والقتل والدمار فيها، ليضعوا شعوبهم أمام الاستبداد الذي تعيشون تحته، بما يعنيه من استقرار، ولو كان تحت حذاء ثقيل الوطأة، أو المغامرة بالعيش، كما آخرين، تحت فوضى عارمة لا تبقي ولا تذر، قتلا وسفكا وتدميرا. إنه خياركم، أما الإصلاح فانسوه.
ينسحب المنطق نفسه على ما عرفته دول أخرى حَلَّتْ بساحتها الثورات، وتحديدا مصر وتونس. ولعل الجميع ما زال يذكر كيف تمَّت هَنْدَسَةُ الفوضى فيهما من عصابات الحكم المحلية، بدعم وإسناد من دول كالإمارات والسعودية، وأخرى أجنبية، وصولا إلى انقلاب دمويٍّ في مصر، وآخر أبيض في تونس. واليوم، يوضع الشعب المصري أمام خيارين مرة أخرى، القبول بحكم طاغية فاشل على كل الصعد، عبد الفتاح السيسي، أو وقوع الكارثة. ألم يقل السيسي، قبل أسابيع قليلة، مهددا المصريين، إنه لن يسمح بتكرار ما جرى قبل سبع سنين من ثورة، محذرا إياهم: "إنتو باين عليكم متعرفونيش صحيح"! المشكلة أن السيسي الذي يعتقل كل من يجرؤ على التفكير في الترشح ضده، مدنيا أم عسكريا، يدير دولة فاشلة بامتياز، سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا. ولكن هذا كله لا يهم، فالشعب المصري، حسب هذا المنطق، مطالب بأن يحمد الله على نعمة "الاستقرار" تحت حذاء العسكر الذين تخلوا عن مهمة حراسة الثغور، وانهمكوا في الاستثمار والفساد والبلطجة.
باختصار، الحلم العربي لا يموت ذاتيا، إنه يتعرّض لعملية اغتيال وَوَأْدٍ وحشي، وهذا طبيعي 
متوقع من أعداء الداخل والخارج. الأدهى أن كثيرين من نخبنا وشعوبنا متواطئة في عملية الوَأْدِ الذاتي لآمالنا وطموحاتنا، على الأقل بالقبول بترسيخ قناعة دنيئة، يراد فرضها علينا، مفادها بأننا لسنا أهلاً لأن نعيش بشرا أحرارا. ولذلك، أيَّ محاولة جادة لإحداث تغيير إيجابي في الفضاء العربي ينبغي أن تأخذ في اعتبارها هذه الحقيقة المؤسفة وهدم أساساتها.
الانفجار العربي قادم، شئنا كشعوب ونخب وأنظمة، أم أبينا. قد لا يكون انفجارا إصلاحيا بقدر ما أنه قد يكون انفجارا اقتصاديا واجتماعيا، لكنه انفجار في كل الأحوال، ونحن إن لم نحسن التحضير له والإعداد لتوجيهه والتعامل معه، فإنه سيكون، لا قدر الله، كارثة أخرى تَحُلُّ بنا. الحزازيات الإيديولوجية والسياسة والحزبية والشخصية التي عرفتها الثورات، قبل سبع سنين، مثلت حاضنة مثالية لنخر جذعها، سمحت بتسلل سوس الثورات المضادة إليها. لا ينبغي أن يحدث هذا مرة أخرى، وتهيئة الأرضية ينبغي أن تبدأ فورا. معركتنا الأساس هي الحرية، ثم بعد أن تستقر الأمور، ونؤسس بنية مؤسساتية صلبة، ووعياً وممارسة راسختين، نتجادل في إيديولوجيا الدولة. بغير ذلك، فلننتظر طوفانا آخر.