هل نستحق الحرية نحن العرب؟

هل نستحق الحرية نحن العرب؟

03 مارس 2017
+ الخط -
قد يبدو السؤال الذي يقترحه العنوان عبيطاً، فمن ذا الذي يجرؤ أن يزعم أن العرب، على عكس غيرهم من الأمم، لا يستحقون الحرية من حيث المبدأ، دع عنك الآن مسألة الممارسة والواقع؟ لكن الاعتباط في السؤال، كما قد يبدو للوهلة الأولى، لا يعني أنه لا أساس له، وهنا مكمن الخطورة. لا أظن أن أحداً فينا لم يسمع مباشرةً من إنسان عربي بسيط مقهور أننا، نحن الشعوب العربية، لا نستحق الحرية والكرامة والديمقراطية، وعدد من يؤمن بذلك ليس بسيطا. إذن، المشكلة لا تنحصر، وحسب، في القبول بواقع القمع والكبت، بل في التبرير له فلسفياً وَقيميّاً كذلك من قبل الضحية. 

من المفهوم أن أنظمة القمع العربية، ومنظّريها، جادلوا دوماً، وسيبقون يجادلون، في أننا، نحن العرب، نمثل استثناء بين الأمم، عندما يتعلق الأمر بمطالب العيش في ظل أنظمةٍ ديمقراطيةٍ حقيقيةٍ تُعلي من آدميتنا. هم دائما ما زعموا أننا شعوبٌ غير جاهزة، ولا مؤهلة، بعدُ كي يكون لنا صوت ورأي في من يحكمنا وكيف يحكمنا. يقول هؤلاء: إن أمر إرساء أنظمة حكم رشيدة وإيجاد ثقافة ديمقراطية مدنية تأخذ حقوق الإنسان وكرامته في اعتبارها مسألة تدريجية، ينبغي أن تقدم للشعوب العربية على جرعات ضئيلةٍ ومتباعدة جداً، وذلك حتى لا تتسبب لها في صدمة تسقط بنى الدولة والمجتمع معاً. ولكن تلك الجرعات لم تأت يوماً، وهي لن تأتي، إنما هي للاستهلاك المحلي والدولي، وفوق ذلك لذرّ الرماد في العيون. يرى الطاغية العربي المصاب بعقدة الاستعلاء، أننا نحن الشعوب، إنما نحن دونٌ، لا نستحق الكرامة والحرية، ولا حتى المواطنة، والتي هي مِنْحَةٌ وَمِنّةٌ منه، لا قيمة وحق لنا. ولا يعدم هؤلاء مبرراتٍ ومسوغاتٍ ابتدعوها. فمن التخويف من عدم جاهزية مجتمعاتنا لتحولاتٍ بنيويةٍ تتعلق بالديمقراطية، مرورا بالتحذير من بعبع سيطرة الإسلاميين على مقاليد الأمور، ووصولا إلى أن الديمقراطية تعني انهيار الاستقرار ومجيء طوفان الفوضى. إنها مقاربةٌ عنصريةٌ استعلائيةٌ تستبطن تناقضا فَجّاً. فإذا كانت المجتمعات العربية غير جاهزة، أو غير مؤهلة، كما يزعمون، فما هي الآلية التي أفرزتهم هم ليحكموا ويتسيّدوا الناس، ويكونوا مؤهلين للحكم؟!
مع انطلاق الثورات العربية أواخر عام 2010 ومطلع عام 2011، نهضت آمال من يؤمن 
بكرامة الإنسان وحريته في أصل خليقته بأن زمن "الاستثنائية العربية" المزعومة قد شارف على الانتهاء إلى غير رجعة، غير أن تلك الآمال لم تحي طويلا. لم تكن صدمتنا بفشل جُلِّ ثوراتنا، على الأقل آنياً، بقدر ما أن الصدمة الأكبر كانت في شريحةٍ واسعةٍ من شعوبنا ممن اعتبرت أن الثورات هي سبب تعاستنا ومآسينا. نسي هؤلاء كيف كانوا يعيشون قبل الثورات. لم يفهموا، أو أنهم لا يريدون أن يفهموا، أن ما أوصلنا إلى الثورات، فالفوضى، هي سياسات القمع والتخلف والفساد والارتهان للخارج، الذي مارست "الدولة العربية" في مرحلة ما بعد الاستعمار الأوروبي المباشر، دور القَيِّمِ عليها. بمعنى آخر، كان خروج الشعوب إلى الشوارع نتيجة لا سببا، وكذلك الحال في الانتقال من الثورة إلى الفوضى، جراء رَدِّ الفعل المجرّم من نظم الاستبداد. وبالمناسبة، فإن حدوث انفجارات شعبية تالية، أكثر عنفا، إنما هي مسألة وقت، فبقاء الحال من المحال. إنها ضد نواميس الكون.
أن يزعم الطغاة وأبواقهم أن الدمار الذي يضرب في فضائنا العربي إنما مردّه التمرّد على سوط الجلاد وصولته شيء، وأن يؤمن ضحايا كثيرون بذلك شيء آخر. للأسف، هذا ما نراه اليوم. أم هل، يا ترى، نسينا كيف خرجت جماهير مصرية غفيرة إبّان الانقلاب على حكم أول رئيس مدني منتخب، وقد وضع كثيرون منهم على رؤوسهم "بيادة" (حذاء) العسكر على رؤوسهم، بل إن بعضهم نزل على الأرض يقبله! في أحد المؤتمرات التي حضرتها في واشنطن، ونوقشت فيها مسألة موقف الشعوب العربية من التغيير في المنطقة، فوجئت باستطلاع للرأي، وثّقته إحدى الدراسات الأكاديمية، يظهر أن غالبية بين بعض الشعوب العربية 
التي تعيش "استقرارا" يرون أن الأوضاع في بلادهم جيدة. لا ينكر المُسْتَطْلَعَةُ آراؤهم أن ثمة ديكتاتوريات وقمعا وتخلفا وفسادا في دولهم، لكنهم لا يقيّمون حالهم بمعايير موضوعية، وإنما مقارنة بدول ملتهبة، كسورية! بمعنى آخر، لا ترى تلك الأغلبيات، بين بعض شعوبنا العربية، مانعا في أن تُحْكَمَ بالحديد والنار، بالذل والاحتقار، ما دام يوفر لها أدنى حَدٍ من "الاستقرار" الموهوم. وهو، على أي حال، سينتهي إلى انفجار، شاء أم أبوا، فحتى ذلك "الاستقرار" الموهوم غير قابل للاستمرار.
بصفتي عربياً، أدرك اليوم حجم غسيل الدماغ الذي كنا نتعرّض له صباح مساء. لقد بلغ حجم التدمير المعنوي المسلط علينا أننا أصبحنا، نحن أنفسنا، نمارس التدمير الذاتي. ترى كم تغنينا ونحن أطفال ومراهقون ببيت الشعر ذاك الركيك والعنصري التافه: شعب إذا ضرب الحذاء بوجهه/ صاح الحذاء بأي ذنب أضرب
كان ذلك المستوى من التحقير الذاتي لأنفسنا الذي وصلنا إليه مقصودا وممنهجا. كنا نُدْفَعُ دفعا إلى أن نكون كحال الضحية التي تصل، بعد نقطة معينة من التعذيب والانتهاك النفسي والعاطفي، إلى حالةٍ من التماهي مع ما يزعمه المجرم، بأنها (أي الضحية) هي المتسبّبة في كل ما يجري لها وبأنها تستحقه. وبالتالي، عليها القبول والرضوخ لمطالب (وتوجيهات) الظالم المجرم الذي يصبح بهذا مجرد "مصلح" و"ناصح" ظلمته الظروف، ومضطر إلى التعامل بقسوة للسيطرة على "طياشات" الضحية و"حماقاتها" الذاتية!
نعم، نستحق، نحن العرب، الحرية، لسنا استثناء بين البشر، ولكن علينا أولا إقناع شعوبنا بذلك، بل وإقناعها بإنسانيتها ذاتها، وبعدها يسهل النضال ضد طغاتنا وداعميهم الخارجيين.