ومن السياسة ما قتل

ومن السياسة ما قتل

05 ديسمبر 2018
+ الخط -
تفعل السياسة ما لا سبيل إلى فعله، أحيانا تقتل أصحابها، فلا يعود لهم صوت مسموع، وإن ظلوا أحياء مسجلين في دفاتر النفوس على أنهم بشر مثل غيرهم، وأحيانا ثانية لا تقتل أصحابها انما تحاول قتل الدولة التي يلوذون بها وينشطون من خلالها، أو قل يتعاملون باسمها، وهم بممارستهم السياسة يحولونها إلى دولة فاشلة، أو أقل من دولة، يمكن أن تصفها بأنها قبيلة أو طائفة، أو حتى "مافيا" نافذة. السبب أن معظمهم ليست لهم أهلية كافية لممارسة الشأن العام، العراق نموذجا، ودزينة السنين الماضية مثالا، ووقائع التجاذبات الماثلة اليوم بين أركان "العملية السياسية" تفضح المستور أمام المواطن العادي، والمراقب من الخارج، وتكشف عورات السياسيين الذين جاءت بهم لعبة ماكرة، وألقت بهم على كراسي من ذهب!
واحدة من غرائب السياسة العراقية اليوم ما تتندّر به مواقع التواصل، ستون يوما والعراق يبحث عن شخصيتين يمكنهما تسلم أخطر وزارتين في الدولة، الدفاع والداخلية، وهما المسؤولتان عن حماية أمن الدولة الخارجي والداخلي، وعن مواجهة احتمالات عدوان الخارج أو إرهاب الداخل، وتكبر أهميتهما وتزداد خطورةً في بلد مثل العراق، خرج للتو من حروبٍ ليدخل في أخرى، ومنذ زمان وشعبه على مدار الأيام والساعات، يقارع الإرهاب متعدّد الأشكال إرهاب الدولة، وإرهاب المليشيات السوداء، وإرهاب "داعش"، وإرهاب مافيات الجريمة والعنف المنظم، وكل هذا يستوجب أن يكون موقعا الوزارتين مشغولين بوزيرين أصيلين، يتمتعان بسلطة اتخاذ القرار، ومؤهلين بالخبرة والدراية لمواجهة التحدّيات الماثلة، وإيجاد الحلول لمشكلاتٍ حادّة قائمة، لكن هذا لم يتم.
ستون يوما والأسماء المرشحة للموقعين، ولمواقع غيرهما، تنتقل من يد إلى يد، وتجري عبر هذه الانتقالات مساوماتٌ وتسويات، وتُصرف أموالٌ تصل أرقامها إلى ملايين، لكن الأمر لا يستقر على حال، ولا يركن إلى مآل. ستون يوما، والكتل تجتمع وتختلف، وتأتلف وتتفرق، لتجتمع وتختلف من جديد، لكن الأسماء المرشحة تظل في انتقالاتها المرسومة لها من يد إلى يد من دون حسم ولا قرار.
في حينها، اكتشف رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، بعدما استقر على الكرسي الذهبي في 
ضربة حظ، أن لا خيار أمامه سوى ملء المواقع الوزارية على مراحل، والزمن وحده كفيل بحل الإشكالات المتراكمة. وهكذا عمد إلى توزير أربعة عشر وزيرا في وزارةٍ ناقصةٍ لتفادي انتهاء المهلة التي حدّدها الدستور، ووعد بتقديم الوزراء الباقين، ومن بينهم وزيرا الدفاع والداخلية، في بحر أسبوع، وينقضى الأسبوع، ويجيء أسبوع ثان وثالث، ورابع أيضا، وليس ثمّة ما ينبئ بالفرج.
هنا تتدحرج كرة الثلج وتكبر، لينكشف المستور، ويعرف الناس أن القادة اختصموا فيما بينهم على الحصول على إحدى الوزارتين، الدفاع أو الداخلية، لأن كلتيهما تدرّان ذهبا على من يحالفه الحظ فتكون من حصته.
وما يضحك، وشر البلية ما يضحك، أن برلمانية معروفة تؤكد واقعة "وجود عمليات بيع وشراء وزارات". وقبلها يحذر التيار الصدري من "أن شخصيات بارزة ضالعة بصفقات بيع الوزارات والمساومة عليها". ثم يقال إن رئيس الوزاء مهتم بمتابعة الموضوع، وفجأة تخفت الأصوات الغاضبة والمحذرة مرة واحدة، ومن دون أن نعرف حقيقة ما جرى.
ومع طرح ملابسات الاستيزار تلك، تتكشف حقائق كانت غائبة: إن هيئة الحشد الشعبي لا تخضع لوزارة الدفاع، ولا تنسق مع قيادة الجيش، وهي تسيطر على مناطق معينة، تصول وتجول فيها، وتبعد قطعات الجيش النظامي عنها، وأن هيئة أخرى معنية بالأمن الوطني أقرب، في مهامها، إلى "وزارة داخلية" أخرى، لا صلة لها بالوزارة الأصلية، يعمل رئيسها بصلاحيات وزير. والأكثر غرابة أن مليشيات "وقحة" تمارس سلطاتٍ أمنية كاملة، تعتقل وتحقق وتحكم، ولا أحد يسأل، وإن سأل أحد فلا أحد يجيب. .. يدفع هذا كله برلمانيا إلى أن يتوقع الانهيار المبكر لوزارة عادل عبد المهدي، وربما انهيار "العملية السياسية" التي هندسها الأميركيون، وسقوطها الحتمي.
جار الزمان على العراق، بعدما أسقطته لعبة ماكرة، تحت سلطة سياسيين ليست لهم أهلية كافية لممارسة الشأن العام، وقد قتلوا الدولة بأياديهم الشريرة، وحولوها دولة فاشلة، أو أقل من دولة، إلى قبيلة أو طائفة أو "مافيا" نافذة؟ هنا يصح القول إن الدوران حول "العملية السياسية" أشبه بالدوران في حلقة مفرغة، والسبيل الوحيد لإخراج العراق من محنته هو في الدعوة إلى عملية سياسية وطنية خالصة، تتجاوز ما حدث، وليس ثمة مخرج آخر.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"