شهادة مبارك.. إعادة سردية المؤامرة

شهادة مبارك.. إعادة سردية المؤامرة

31 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم تحمل شهادة الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، خلال نظر قضية اختراق الحدود الشرقية جديدا، فالرجل الذي بدا متحفظا، في أغلب ردوده، أكد على السردية القديمة، والتي كان يتم تعميمها منذ الأشهر الأولى لثورة يناير2011، وهي أن نظام مبارك بريء من قتل المتظاهرين، وأن متسللين من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني اخترقوا الحدود، وقتلوا المتظاهرين بأسلحتهم، عبر اعتلاء العمارات المحيطة بميدان التحرير في القاهرة. وبهذا الشكل، فإن ما جرى من جرائم قتل ليست مسؤولية النظام، بل كانت الثورة، في مجملها، مؤامرة، نفذها الإخوان المسلمون، وساندتها حماس وإيران، وخدع بها المصريون فترة. 
هذا ملخص الرواية المطلوب اليوم استدعاؤها، وإعادة ترويجها، ليس وحسب لتبرئة نظام مبارك الذي لم يحاسب على قتل نحو ألف شهيد، وإصابة ما يزيد عن ثمانية آلاف، لكن أيضا لإحياء وإنعاش موسم تشويه الثورة في اقتراب ذكراها، وإعادة التذكير بأنها فوضى ومؤامرة متعدّدة الأطراف، استهدفت اختراق الحدود، وتأليب المصريين ضد نظامهم، وتشويه صورة الدولة ونظام مبارك بوصفه قاتلا.
تساهم الرواية أيضا، في جانبٍ منها، في تبرئة من تسببوا في فتح السجون، وهروب من فيها، وأيضا تحاول أن تكون مصدرا واحدا للأحداث، يقرّره ممثل السلطة التي ثار ضدها الشعب، وإبعادنا عن شهادات أخرى مختلفة بشأن الحدث نفسه.

تعود رواية مبارك مادة إعلامية، تبث على الهواء، لتحاول تأكيد أن الثورة مؤامرة، وأن الاحتجاج لم يكلف مصر إلا الخراب، وأن المتظاهرين حينها، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون كانوا دعاة للفوضى والتخريب والقتل، يستخدم هنا "الإخوان" بالذات لعوامل كثيرة في هذه اللحظة، من أجل تشويه الثورة، خصوصا فيما يتعلق بتهم حسّاسة للحس الوطني المصري، كالاتهام بالتخابر وتسهيل اختراق الحدود الشرقية لمصر عبر أنفاق غزة.
يراد، بعد سبع سنوات من الثورة، مواصلة الانتقام منها، ومن صورتها البهية التي أجبرت مبارك على التنحّي، والحد من جبروته. لقد بات محو ذكرى يناير، وقدرة الشعب على الانتصار على الاستبداد أمرا ملحا، خصوصا مع تجدّد حركات الاحتجاج في عدد من الدول العربية، فمن السودان إلى تونس والأردن، تصعد الأصوات الغاضبة، لتعلن مطالب الناس، بينما ثورة مصر متعثرة لم تحقق شيئا من مطالبها، وتعرّضت لانتكاسات متعدّدة، عبر تطبيق سياسات اقتصادية، تراكم الغضب نفسه الذي يمثل دافعا للاحتجاج.
يُراد في الذكرى المقبلة للثورة أن تُمحى أي تفاصيل عن انتصار إرادة المصريين، ليحل محلها إحساس بالندم على الثورة، أو كما يراد أن يقنعوا الناس بأنها محض وهم تصوروه ثورة، أو بشكل أدق محض مؤامرة.
إذا سلمنا بصدق مبارك، فعلى المصريين أن ينسوا مشاهد بثتها وسائل الإعلام، كاعتداءات الشرطة على المتظاهرين، فالذين قتلوهم هم عناصر من "حماس" وحزب الله بالتعاون مع الإخوان المسلمين. عليك أن تنسى صور دهس عربات الأمن بعض المحتجين، وأن تستدعي صور عربات الدفع الرباعي التي حملت ثمانمائة مسلح من "حماس" وحزب الله، وعليك أن تصدق أن هؤلاء هم من قتلوا المتظاهرين ورجال الشرطة.
لا أحد ينكر أن سجونا فتحت، وسجناء هربوا، لكن تفسير ذلك برواية مبارك التي نقلها إليه عمرو سليمان نائب رئيس الجمهورية ومدير المخابرات السابق ليست إطارا يفسر ما جرى، خصوصا أن مبارك يتهم المتسللين بقتل المتظاهرين ورجال الشرطة، بينما عمر سليمان سبق أن أفاد بأن مبارك على علم بالمواجهات التي تمت خلال الثورة بين قوات الأمن والمتظاهرين، وما خلفته من قتلى، بل اعتبره مسؤولا عن ذلك، ما يؤكد أن مبارك خلال شهادته ينطلق من تبرئه نفسه ونظامه، ويساهم، في الوقت نفسه، في تسيد أن الثورة مؤامرة لم تجلب سوى التخريب والفوضى، وهي نفسها الرؤية التي لا يتبناها النظام في مصر فحسب، بل وبعض القطاعات التي تسانده من خارجه، وبعض المحبطين والمهزومين الذين تبنوا هذه الأفكار، وصدّروا روايات الوعي الزائف، ليختاروا مواقع أمنه في المشهد السياسي، وهذا طبيعي، فالديكتاتور لن يدين نفسه، وكل الحكام المستبدين يفسرون الاحتجاج ضدهم بتآمر دول عليهم، وهي تحرض شعوبهم على الثورة. وليست بعيدة هنا اتهامات الرئيس السوداني، عمر البشير، لإسرائيل بوقوفها خلف انتفاضة الشعب السوداني، عبر دعم 280 عنصرا من حركة عبد الواحد نور المتهمة بإدارة التخريب والتحريض على الفوضى، ولا بعيدة عن صديقه بشار الأسد الذي يتهم كل من يعارضه بالإرهاب.

بات توصيف الثورات بالمؤامرة ماركة مسجلة تنسب للنظم الاستبدادية التي تثور شعوبها عليها، وكذلك لكل المستفيدين من وجودها، لا يقتنع بها إلا من أراد تشويه الثورات، وإثبات صحة معتقداته بشأن عدم قابلية الشعوب للثورة، وخضوعها للمستبدّين، ولدى هؤلاء الذين يروجون لذلك، سواء من المنطقة العربية أو غيرها من دوائر غربية، ما يبرّر هذا الاقتناع من مصالح تخصهم.
هناك أسئلة عديدة، وتفاصيل كامنة، فيما يخص وقائع فتح السجون، ربما تكشف مستقبلا. وأمام شهادة مبارك، هناك شهادات عديدة، منها شهادات ضباط وسجناء، غير عديد من مكونات سلطة مبارك، منهم شهادة مصطفى الفقي عن سيناريو شبيه لما حدث من عمليات فتح السجون لإحداث فوضى ورعب. وقد روى ذلك في إطار حديثه عن محاولات توريث مبارك السلطة لنجله جمال، وقال إن سيناريو إشاعة الفوضى وفتح السجون كان معدا له في حالة وفاة مبارك، أو الاعتراض على توريث الحكم، كما يمكن استخدام المنطق البسيط في تفنيد رواية مبارك عن هرب "الإخوان المسلمين" من السجون بمعاونة حركة حماس وحزب الله، ثم استقبالهم من أجهزة الدولة، للتفاوض معهم خلال أيام الثورة الأولى، وكذلك الكشف عن اتصالاتٍ، تمت بين الجانبين خلال تلك الفترة.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".