الانسحاب الأميركي المزدوج

الانسحاب الأميركي المزدوج

29 ديسمبر 2018
+ الخط -
تتوالى قرارات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تنفيذاً لعقيدته "أميركا أولاً". وتأكيداته تكراراً ومراراً أن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في مواصلة لعب "دور الدركي" عالمياً، والذي يكلفها أرواحاً وأموالاً باهظة، حماية لأناسٍ لا يستحسنون ما تقوم به، على حد قوله. ويصعّد ترامب اللهجة حيال حلفاء أميركا من العرب في الشرق الأوسط، مهدداً بنزع المظلة العسكرية الأميركية عنهم، لأن هذا العبء الأمني الذي تتحمّله بلاده يثقل كاهلها، ويزيد عجز ميزانيتها. ويندرج قرار الانسحاب المزدوج من سورية وأفغانستان (جزئياً، سحب حوالي 7000 جندي من أصل 14000، قوام القوات الأميركية هناك) ضمن هذه العقيدة الانعزالية. وحتى وإن لم تكشف بعد الإدارة الأميركية عن جدول زمني لذلك، فإن قراري الانسحاب أحدثا هزةً سياسيةً لدى الأطراف المعنية بالأزمتين، أو المستفيدة من التدخل الأميركي، لتخوفها من انعكاساتهما الأمنية. أما الأطراف الأخرى، المعارضة أصلاً للوجود العسكري الأميركي، والمستفيدة من الانسحاب، فهي ترحب به، نظراً للمكاسب التي ستحققها.
يؤكد هذا الاختلاف في ردود الفعل، وفي تطلعات كل طرف، أن "الحرب على الإرهاب" كانت وستبقى صراعاً على القوة، إقليمياً وعالمياً، بغض النظر عن حقيقة وجود تنظيماتٍ إرهابيةٍ تنشر القتل والرعب والدمار. كما يؤكد قرار الانسحاب المزدوج أنه كلما "عطست" القوة العظمى ارتعش العالم. بيد أن ترامب لا يعي بعد وقع قرار القوة الأولى في العالم، وغالباً ما يتصرّف وكأنه يتزعّم بلداً عادياً. بالطبع، تجد الولايات المتحدة نفسها، بحكم قوتها، دائماً في معضلة: إن هي تدخلت تُتهم بالتدخل، وباستخدام القوة خدمةً لمصالحها القومية؛ وإن رفضت 
التدخل أو انسحبت من مسارح الصراع تُتهم بتنصّلها من مسؤوليتها الدولية، ومن الدور المنوط بها في الحفاظ على الأمن والسلم والدوليين. ولكن لا يبدو أن ترامب يعي هذه المعضلة وتعقيداتها، فضلاً عن الحنكة السياسية الضرورية للتعامل معها.
في ما يتعلق بالانسحاب من سورية، فهو يخص سحب القوات الأميركية (حوالي ألفي رجل) المنتشرة في بعض المناطق السورية منذ العام 2014، فيما ستستمر الضربات الجوية ضد أهداف داعشية في سورية. ويبرّر ترامب قرار سحب قواته البرية من سورية بالقول إنه تم دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وحان الوقت لعودة الجند إلى ديارهم. وبهذا، فهو الزعيم الغربي الوحيد الذي يقول بتحقيق النصر على "داعش" في سورية. وهو تقدير لا تشاطره إياه دول مثل ألمانيا وفرنسا، فالأخيرة أعلنت، على لسان وزيرتها للدفاع، أنه صحيح أن "الخلافة القُطرية" (في إشارة إلى الرقعة الجغرافية التي كان يسيطر عليها) لهذا التنظيم لم تعد على ما كانت عليه في 2014، ولكن هناك جيوب انكفاء لعناصره، يجب مواصلة تطويقها لتدميرها. وتعيب فرنسا على أميركا أنها لم تعد ذلك الحليف الذي يُعتمد عليه.
يتضح مما سبق أن الخاسرين من الانسحاب من سورية هم حلفاء أميركا، في أوروبا والشرق الأوسط، وحتى داخل سورية. ميدانياً، يمكن اعتبار القوات الكردية السورية الخاسر الأكبر لاعتمادها على الدعم الأميركي. أما أكبر المستفيدين من الانسحاب الأميركي فهم روسيا وإيران وتركيا، وطبعاً النظام السوري، فروسيا التي فرضت نفسها فاعلا أساسيا في الأزمة السورية تتخلص من منافس قوي. والشيء نفسه يقال عن إيران، الحليف الاستراتيجي الآخر للنظام السوري. وربما تركيا أكثر استفادة منهما من الانسحاب الأميركي، نظراً لمصالحها السياسية والأمنية ذات الصلة بالأزمة السورية، إذ سيترك سحب القوات الأميركية الساحة للقوات التركية للهجوم على المليشيات الكردية السورية. ويعد هذا هدفا استراتيجيا أعلنت عنه الحكومة التركية مراراً، خصوصا أن قواتها اجتاحت الأراضي السورية مرتين في العام 2016 لضرب معاقل القوات الكردية. ومن غير المستبعد أن يكون أيضاً الانسحاب من سورية نتيجة مقايضة بين أميركا وتركيا: تنسحب الأولى لتفسح المجال للثانية لمحاربة المليشيات الكردية شريطة أن تقاتل "داعش".

في ما يتعلق بالانسحاب من أفغانستان، يبرّر ترامب قراره بالسعي إلى تسوية سلمية للأزمة الأفغانية (هناك مفاوضات جارية)، فضلاً عن الاعتبارات المالية، إلا أن هذه التسوية مطروحة منذ سنوات، من دون أن تقود إلى نتيجة، فالإدارات الأميركية التي تعاقبت على الحكم منذ التدخل العسكري في أفغانستان عام 2001 اقتنعت كلها بأن الحل العسكري غير ممكن، ولكنها لم تطرح البديل. وهي في مأزق: البقاء العسكري لا يجدي نفعاً، لكن الانسحاب سيدمر كل ما تم بناؤه خلال ما يقارب عشرين سنة من الوجود العسكري. وربما من حيث حسابات الربح والخسارة، يمكن القول إن تداعيات الانسحاب أسوأ من البقاء، حتى وإن كان الأخير مكلفاً. ولكن لا شك في أن هناك ضرورة ملحة لإيجاد بديل سياسي للوضع القائم. في انتظار ذلك، يتخوف حلفاء أميركا من انسحابها، نظراً إلى حجم القوات الأميركية وأهميتها، عدة وعتاداً، في استراتيجية الحلف الأطلسي في أفغانستان، وفي دعم قوات الحكومة الأفغانية. لذا، فهذا الانسحاب (الجزئي) سيزيد من تصلب عود حركة طالبان التي نجحت في فرض حرب استنزافٍ على القوات المتدخلة في البلاد.
من غير المستبعد أن يعتمد حلفاء أميركا استراتيجية التخويف من مآلات الوضع بعد الانسحاب من سورية وأفغانستان، سعياً إلى إقناع الرئيس الأميركي بالعدول عن قراره، نظراً للمخاطر التي ستترتب عنه، بيد أن ترامب غير المكترث باستقالة وزيره للدفاع، احتجاجاً على قرار الانسحاب من سورية، كيف به أن يعبأ بما يقوله حلفاؤه في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وخارجه. ربما الدلالة الأساسية لقراري الانسحاب أنه ماض في قطع شعرة معاوية مع حلفاء الولايات المتحدة، واضعاً مرة أخرى الرابطة الاستراتيجية العابرة للأطلسي أمام امتحان عسير.