مربّع برمودا الأردني

مربّع برمودا الأردني

23 ديسمبر 2018
+ الخط -
بغتة، أصبح للحكومة الأردنية قلب رقيقٌ، يتمزق أسىً على مصير المرضى المهدّدة حياتهم، جرّاء اعتصامات الحراك الشعبي قرب مقرّها؛ لأن موقع الاعتصام يجاور مستشفى، و"تجد سيارات الإسعاف صعوبةً في الذهاب والإياب بسبب المعتصمين".. وفق دموع الحكومة التي بدأت الضرب على هذا الوتر الإنساني، لعل المعتصمين يتراجعون عن نياتهم بمواصلة الاعتصام والتنديد بالسياسات التي تقود إلى مزيدٍ من التدهور على مختلف الأصعدة، وفي ظنها أن "المرض" سببٌ وجيهٌ لفضّ أي اعتصام، بعد أن أثبتت الهراوات والغازات فشلها، ليس في الأردن وحسب، بل في باريس، بلد العطور والزهور أيضًا.
لكن قبل أن نزوّد الحكومة بالمناديل لتمسح دموعها السخية، يتعيّن أن نلفت انتباهها، أولًا، إلى أن هذا الأسلوب "المرَضيّ" ليس جديدًا لتحقيق المآرب والغايات، بل يذكّر بالدروع البشرية التي تستخدم في الحرب، لإضعاف معنويات الخصم، وحمله على التراجع عن المواجهة، مثلما يذكر بالرهائن الذين يستغلهم المجرمون للحماية أو الفرار، ولقد فاتها، وهي تسوّق تلك الذرائع، أن الحراك الشعبي الأردني انطلق أساسًا من دوافع إنسانية، بعد أن استفحل البؤس في حياة المواطن الذي لم يعد قادرًا على مواجهة أعباء المعيشة التي تضيق يومًا بعد يوم، من إيجار البيت إلى ثمن القبر. وعليه، لن تجد سيارات الإسعاف عائقًا من هؤلاء الحراكيين المسكونين بهمّ المواطن، فكيف بالمرضى، وأراهن أنهم سيصبحون ممرضين، ورجال إسعاف وإطفاء، إن لزم الأمر، إن وقع أحدهم على حالةٍ إنسانيةٍ تستدعي مساعدة عاجلة.
فات الحكومة، أيضًا، أن تستمزج رأي المرضى القابعين في سيارات الإسعاف عن مشاعرهم، وهم يشقّون طريقهم بين الحراكيين، لكنها لن تجازف بهذا السؤال؛ لأنها تعرف، جيدًا، أن المرضى لا يضيرهم مشهد الاعتصام؛ لأن مرضهم، أصلًا، ناجمٌ عن ضنك العيش، وسيرون في هذه التجمعات الاحتجاجية سبيلًا للشفاء، ولربما يخرجون من سيارات الإسعاف لمشاركة المعتصمين احتجاجاتهم.
كان حريًّا بالحكومة الأردنية أن تتريّث قبل التسلّل من باب المرض، حصرًا؛ لأنه بابٌ سيطبق على يديها هي لا على أيدي الشعب المبتلى بحزمةٍ من "الأمراض" المتفشية في جسده، بدءًا من المرض الصحي الحقيقي الذي يعجز المواطن عن دفع تكاليفه الخيالية، وليس انتهاءً بأمراض البطالة والفقر والفساد التي تصيبه كل يوم في مقتل، ولو كان الشعب الأردني من النوع الذي تمنعه الأمراض عن مواصلة أحلامه وطموحاته، لكان كله طريح فراش المستشفيات منذ أمد بعيد، ولأصبح الوطن بأجمعه مستشفىً كبيرا، غير أنه شعب صابر وصبور، يمنح الفرص تلو الفرص لحكوماته، علّها تجد حلولًا لهذه الأمراض، بعيدًا عن صناديق النقد الدولية، وعن تسوّل المساعدات الخارجية، وعن انتظار نكبات المحيطين، وعن الاعتماد على تصدير العمالة الوطنية إلى دول الخليج بانتظار تحويلاتهم المالية ليس إلا، ومن ثم إلقائهم على أبعد رصيف، بعد أن تجفّ عروقهم.. فعلى هذا المربّع "البرموديّ" قام الاقتصاد الوطني الأردني، منذ الأزل، وما يزال يقوم؛ وليس ثمّة أي خطة اقتصادية تخرج عن هذا المربع، فإن اهتزّ ضلعٌ منه اهتزّ معه الوطن بأكمله، على غرار ما حدث في حربي الخليج وعودة آلاف المغتربين، وعلى غرار ما يحدث حاليًّا بعد أن اهتزّ ضلع صندوق النقد الدولي الذي لم يعد يصمت على دينه المستفحل، أما المساعدات فقد تقلّصت هي الأخرى، لأن "صفقة القرن" تحتاج إلى بلدٍ مفلس، وإلى شعب في الدرك الأسفل من الجوع والبطالة وغلاء المعيشة.
على هذا النحو، ربما كانت الحكومات هي المريضة، فعلًا، لا الشعب، لأنها ما تزال تفكر من داخل المربع الضيق ذاته، ولم تخرج لتختبر الآفاق التي يمكن أن يصنعها الشباب المحتاج إلى الحرية الحقيقية لإطلاق ممكناته. وما دام الحال كذلك، فالأولى بها أن تكون في سيارة الإسعاف، لكن أنصحها أن تختار طريقًا مغايرًا، بعيدًا عن جموع المعتصمين.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.