الأنظمة العربية ومعامل أنيس عبيد

الأنظمة العربية ومعامل أنيس عبيد

15 ديسمبر 2018
+ الخط -
على الرغم من هزلية (وعبثية) المؤتمر الصحافي الذي عقدته النيابة السعودية بشأن مقتل الصحافي جمال خاشقجي، إلا أن الجزء الأكثر عبثيةً وإثارةً للضحك والسخرية في هذا المشهد البائس كان تصريح المتحدث أن جثة خاشقجي تم "تجزئتها". عندما سمعت هذه الكلمة، لم أتمالك نفسي من الضحك، فالسيد المتحدّث يريد أن يخفّف من وقع كلمة "تقطيع" فاستعاض عنها بكلمة "تجزئة"، وكأننا نتحدث مثلا عن تجزئة سلعة وليس جسد إنسان، وكأن الجثة يمكن أن يتم تجميعها بعد ذلك مثل فيلم "فرانكنشتاين" عندما جمع البطل عدة أجزاء من جثث الموتى في جسد واحد، لينتج عنها مخلوقٌ جديد.
عند إمعان التفكير في استراتيجية "التجزئة" التي اتبعتها النيابة السعودية، واستخدمتها السلطات السعودية أكثر من مرة في القضية، عندما اعترفت بالجريمة بطريقةٍ تدريجيةٍ ومجزأة، يتضح لنا أنها استراتيجية واضحة وثابتة للأنظمة العربية جميعها، وتتمثل في إطلاق أسماء وألقاب مختلفة على إجراءاتٍ وقراراتٍ وأفعال لمحاولة إعطائها معاني مختلفة تماما.
على سبيل المثال، يطلق النظام في مصر، ومسؤولوه وأذرعه الإعلامية، على الارتفاع المتكرر لأسعار السلع عدة مسميات، مثل "تحريك الأسعار" أو "تحرير الأسعار" أو "تعديل الأسعار" أو "تقليص الدعم" أو حتى "تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي". أما القروض والديون الخارجية التي تفنن النظام في الحصول عليها حتى وصلت الديون إلى مستويات قياسية لم تحدث في التاريخ، فيتم استخدام عدد آخر من المصطلحات البديلة حيالها، مثل "الحزم التمويلية" أو "الاستثمارات الخارجية"، وهي تسميةٌ مضحكةٌ، لأنها استثمارات قصيرة الأجل تركّز على أذون الخزانة والسندات، وسرعان ما تخرج مرة أخرى، بعد أن تحصل على أرباحٍ مجزيةٍ من الحكومة، لكن الحكومة تهمل الحديث عن ذلك، وتتحدث عن "ارتفاع الاحتياطي النقدي" الذي هو في الحقيقة ارتفاع في الديون والقروض.

ولا تتوقف سياسة إطلاق المسميات البديلة عند حدود القرار فقط، بل تتعدّاه إلى محاولة تسويقه وتبريره لدى الجمهور، بعكس معناه تماما، مثل زعم المتحدث باسم مجلس الوزراء، في يوليو/ تموز الماضي، أن زيادة أسعار الغاز الطبيعي "ترسي مبدأ العدالة الاجتماعية"، على الرغم من أن الفقراء ومحدودي الدخل هم من يكتوون بنار تلك الزيادات، وليس أحدٌ غيرهم. وعندما تم التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، أطلق النظام وأذرعه الإعلامية على اتفاقية التنازل لقبا محايدا، لا يوحي بأي تنازل، وهو "ترسيم الحدود". وذلك كله بتأييد وتهليل أحزاب وكيانات وائتلافات تطلق على نفسها أسماء مثل "في حب مصر" و"دعم مصر" و"تحيا مصر".
وفي سيناء، عندما تستهدف الجماعات المسلحة هناك جنودا في الجيش أو الشرطة وتقتلهم، نجد الأذرع الإعلامية تتحدث عن "إحباط عملية إرهابية". ولا يهم هنا أن تلك العملية أدت إلى مقتل ضباط وجنود، ولا ندري أي إحباطٍ هذا الذي يحدث، على الرغم من الدماء التي سالت.
وعندما أراد محامي آخر وزراء داخلية حسني مبارك، حبيب العادلي، تبرير هروب موكله من صدور حكم ضده بالسجن العام الماضي، خرج يتبجح قائلا إن موكله ليس هاربا ولكنه "متخلفٌ" عن تنفيذ الحكم! ولا يوجد بالفعل أكثر تخلفا من هذا التبرير.
ولا يعني تركيز هذه المقالة، في تناولها تلك المسميات في مصر، أنها البلد الوحيد الذي يشهد هذه الظاهرة المثيرة للسخرية، فلكل بلد عربي خصائصه ومسمياته، وقد أدليت بدلوي فيما يتعلق بمصر نظرا لمعرفتي الوثيقة بتلك المصطلحات، ويمكن أن يكون ذلك باكورة إسهامات أخرى لكتاب آخرين، كل يدلي بدلوه عن بلده.
كانت الأفلام الأجنبية في مصر تطبع ترجمتها في معامل تسمى "معامل أنيس عبيد"، وكانت تلك الترجمات تتجنب ترجمة السباب والشتائم في الأفلام، مكتفية بعبارات أخف وطأة بكثير، مثل "عليك اللعنة" أو "سحقا" أو "اذهب إلى الجحيم". ويبدو أن الحكومات والأنظمة العربية قد استمدت ذلك التحريف في سياستها الفعلية، حتى يصح أن يطلق عليها "سياسة معامل أنيس عبيد".
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.