تونس.. ليس بالتوافق وحده تنجح الثورات

تونس.. ليس بالتوافق وحده تنجح الثورات

21 نوفمبر 2018
+ الخط -
تونس فاتحة للثورة، وشعلة للأمل المتجدّد. في كل منعطفٍ يثبت الشعب التونسي، وقوى الثورة، أنها قادرة على خوض معارك الكرامة، بفضل إرادة مكونات هذ الشعب، وقدرته على الحوار والتوافق، والحفاظ على حرية التعبير التي انتزعها التونسيون، ولم يفرطوا فيها تحت شعارات الثورة المضادّة، عن الاستقرار، وعجلة الإنتاج، والرجوع إلى حدود ما قبل الثورات وسكونه، حرية التعبير التي ما زالت متحقّقه في تونس أهم مكتسبات الثورة التي انفجرت اجتماعيةً، فأزاحت جدار الاستبداد، لتعبر عن بركانٍ من الغضب، لم يكسر وحسب حواجز خوف وضعها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، بل وبدّد إحباطات جيلٍ تخيّل أنه مات، ولم تعد هناك إمكانية إلا لإصلاح النظام، لا الثورة عليه. هنا لا بد من الوقوف عند المكون الاجتماعي الاقتصادي أساسا لانتفاضة سيدي بوزيد وغيرها من مناطق تونس، ثم ما تلا ذلك من تحول سيدي بوزيد إلى انتفاضة كرامة شاملة، بمشاركة قطاعات متنوعة من الشعب التونسي، ثم إلى ثورةٍ أسقطت بن علي وزمرته، خصوصا بعد نزول عشرات الألوف من مناضلي الاتحاد العام للشغل والطلاب وحرائر تونس، فكانت نقطة التحول التي حسمت خيار الشعب بالثورة والتحرّر، وكانت القوى الاجتماعية حاملة الثورة، والأزمة الشاملة دافعا لحركاتها، والانتفاضة أحد تمظهراتها، والحركة الاجتماعية بما فيها حركات الشباب واحتجاجات عدة، كالحوض المنجمي مقدمات للثورة.
ما زالت تونس حيوية، وتشكل قواها حراكا احتجاجيا واجتماعيا، يؤشّر على عمق الأزمة التي لم تحل. وعلى الرغم من تشابه الوضع الاجتماعي والاقتصادي المأزوم في أكثر من بلد عربي، فإن ثلاثية حرية الرأي ووجود حد أدنى من قواعد الحوار، وكذلك نشاط المجتمع المدني التونسي يؤثر في المشهد السياسي التونسي، ويجعله أكثر ديناميكية. وهذه العناصر الثلاثة تجعل تونس رقما فارقا، وتجربة مغايرة، وهي تنفي، بهذا الوجه المشرق، على الرغم من الأزمة، مقولات الثورة المضادة إن الثورات العربية مؤامرة، أو أنها لا تحمل سوى 
التخريب، ولا ترفع مطالب الشعوب، فالثورة بوصفها فعلا شعبيا لها أساسها وفرص تكوّنها، وهي فعل شعبي لا ينشأ بالمؤامرات، ولا يدبر من الخارج، وليست ترفا أو كسرا للممل، أو نزهة وتمظهرا لتشابك محتجين مع قوات الأمن، وإنما هي تعبير عن فيضٍ من الغضب متراكم، نتاج إهدار الحقوق وغياب الكرامة قبل الخدمات والسلع. الثورة هنا حاجة موضوعية، وضرورة إنسانية، وأداة للفعل السياسي في أرقى أشكاله، لتفكيك النظم التي لم تعد صالحة للبقاء، والتي لا تؤدي فيها الأطر والأنساق الاقتصادية والاجتماعية دورها. هذا ما حدث في تونس والثورات العربية، بل أغلب الثورات في العالم منذ مائة عام مضت، وهذا ما تحاول الثورة المضادة إخفاءه، سواء من خلال وصم الثورة بأنها طريق يعتريه خطأ ومخاطر، أو الوصول إلى تشخيص أن نظم ما قبل الثورة كانت عادلة ورحيمة. ومن هنا، تطرح عدة نخب فكرية بنت النظم القديمة والجديدة على السواء، وغير منقطعة الصلة بمنظماتٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ دوليةٍ، مفاهيم الإصلاح مقابل الثورة. بعصا الأمن، يتم تخويف الجميع من خيار الاحتجاج أو الثورة. وبتزييف الوعي، يحاولون أيضا إبعاد خيار الثورة، أو على حد تعبير القائد النقابي نور الدين الطبوبي، يريدون أن تندموا على الثورة، لكن خيارات الشعوب في العيش بسلام واستقرار تعكّرها سياسات النظم التي تنهب الشعوب. لذا، الباب مفتوح لتمظهر مطالب الشعوب في أشكال متعدّدة، وقد يكون هنا أو هناك "الثورة خيار الشعب".
صحيحٌ أن الظلم الاجتماعي والاستبداد وانتهاك الحقوق والتمييز، وغيرها من المشكلات، ليست عوامل وحيدة للثورة، لكنها تبقى الأساس. وحين تتوفر الفرصة في الثورة عبر تجميع المتضررين من هذا السياق وتنظيمهم، مع ضعف النظام تصبح الثورة مثل إزالة جدار لا أساس له، أصابه العطب، بحكم هشاشته وضعف بنيانه، وغياب دعائم وجوده محليا وعالميا.
هيأ الاتحاد التونسي العام للشغل، قبل أيام، لإضراب عمومي يشمل موظفي القطاع العام والوظيفة العمومية، مع إضراب تضامني بالقطاع الخاص. احتشد مناضلو الاتحاد ومناضلاته في ساحة محمد علي التاريخية، وأمام مقر الاتحاد، صدحت الحناجر بهتافات تدعو إلى العدالة وحفظ كرامة ملايين العمال، وكذلك المهنيين، معلمين وأطباء، وأيضا أساتذة الجامعة وغيرهم. كان خطاب الأمين العام للاتحاد مرتبطا بهموم الملايين من التوانسة، ومتصلا بآمال ملايين آخرين من أسرهم، حاملا رؤية عمالية تربط بين الهم الاجتماعي الاقتصادي والسياق السياسي تونسيا وإقليميا وعالميا، كما ربط المتجمعون، عبر هتافاتهم، وبفهم جدلي، الخاص التونسي بالمشهدين الإقليمي والعالمي.
وإذا كانت تجربة تونس ملهمة في الحيوية والقدرة على الحوار والتفاوض، إلا أن نتائج هذا 
التوافق، على الرغم من أهميته، تحتاج مراجعة، خصوصا في ما يتعلق بالملفات الاقتصادية، والانحيازات الاجتماعية، أو بمعنى آخر، إفرازات المجموعات والأحزاب الحاكمة، وما تنوي تنفيذه مستقبلا، وما نفذته بالفعل من سياساتٍ تضرّ ملايين من التوانسة، بل وتخضع المجتمع التونسي لقوى هيمنة محلية وإقليمية وعالمية تتحكّم في اقتصاده.
ومن هنا، يمكن استنتاج أن إخفاقات حكومات ما بعد الثورة يُراد أن يستخدمها بعضهم إدانة للثورة، وليس نقدا لمكونات الحكم أو الطبقات المهيمنة والمتحكّمة في اتخاذ القرار. وإذا ما ترسخت هذه الإدانة في الأذهان، فإنها ستعني ببساطة إدانة أي حراك شعبي مستقبلا، أو منع ظهوره تحت سطوة الإحباط مرة، أو الإخفاق مراتٍ، أو عبر استخدام مختلف أدوات الترهيب سجنا واعتقالا. ويعد التدخل الإقليمي في إدارة شؤون البلاد العربية بعد الثورات أحد أدوات الثورة المضادّة أيضا، لأنه يكرّس التبعية، ويبعد متّخذي القرار وأصحابه الحقيقيين من إعلاء صوتهم. وتمثل هذه التدخلات أيضا، في أغلب حالاتها، تخريبا، حتى لو تمظهرت بأنها تقدّم مساعداتٍ مالية لحكومات ما بعد الثورة.
يبقى أن تونس ما زالت تشكل حالة النجاح الوحيدة من فخ السلطوية والإسلاموية والعنف السياسي، وأن قيمة الحرية والحق في التعبير وحفظ قيم المدنية والحوار مكسب مهم، سيساهم في تطوير آليات الصراع وإنتاج حلول وبدائل، إذا تكتلت قوى المجتمع التونسي في هذا الاتجاه. وعلى الرغم من مشكلات تونس الاقتصادية، والتي ستدفع إلى الحراك مجددا، إلا أنها تعطينا نموذجا أن ثورات الربيع العربي يمكنها النجاح والسير إلى الأمام، إذا مثلت قوى الحكم آمال شعوبها. وليست كل البلاد مثل سورية والعراق، ويمكننا الحلم بواقع أفضل، والطموح إلى تحقيقه، في تونس ومصر وغيرهما من الدول العربية.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".