"قلعطونا ولكن أراحونا"

"قلعطونا ولكن أراحونا"

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
بعض التعبيرات نحسب أنها من العامية، فنترفّع عن استعمالها في لغتنا الفصيحة، وهي ألفاظ مظلومة، ومتروكة، ومن هذه الألفاظ: القلعاط، والقلعطة، والمقلعط.
قلعط، في "لسان العرب"، مثلا، اقْلَعَطّ الشعرُ جَعُد كشعر الزّنْج، وقيل اقْلَعَطّ واقْلَعَدّ، وهو الشعر الذي لا يطول، ولا يكون إِلا مع صلابة الرأْس وقيل: فما نُهْنِهْتُ عن سَبْطٍ كَمِيٍّ/ ولا عن مُقْلَعِطِّ الرأْسِ جَعْدِ. .. وهي القَلْعَطةُ، وأَنشد الأَزهري: بأَتْلع مُقْلَعِطِّ الرأْسِ طاط.
وفي "تاج العروس" قريب من هذا، اقْلَعَطَّ الشّعُر أَهْمَلَه. وقال: جَعُدَ وصَلُبَ كشَعرِ الزَّنْجِ كاقْلَعَدَّ والمُقْلَعِطُّ كمطْمَئِنّ: الهارِبُ الحَاذِرُ النَّافِرُ الخائِفُ، نَقَلَه الصّاغَانِيُّ عن ابْنِ عَبّادٍ. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: المُقْلَعِطُّ: الرَّأْسُ الشَّدِيدُ الجُعُودَةِ لا يَكادُ يَطُولُ شَعرُه، ولا يَكُونُ إِلّا مع صَلاَبَةٍ والاسمُ القَلْعَطَةُ، وهو أَشَدُّ الجُعُودَةِ.
أما في دارجتنا، فنقول لمن يقرفنا بفلسفته الفارغة، ومداخلاته التافهة: قلعطنا، وهي لفظة مستمدةٌ، كما يبدو، من صورة الشعر الجعد صعب التسريح، مع ما يرافق هذا من قبحٍ ربما، وفق بعض معايير الجمال، مع الاحتفاظ هنا بالاحترام لأصحاب هذا الشعر، بعيدا عن أي عنصريةٍ أو مشاعر كراهيةٍ لما خلق الله، وما لا يمكن لمخلوقٍ أن يترف فيه، علما أن تقنيات التجميل المعاصرة تغلبت على كل ما لا يريده الإنسان في خِلقته، ونشأ علم معقد لا مجال هنا للانشغال بتفصيلاته.
المهم، ما أكثر من يقلعطنا في هذه الأيام، خصوصا حين يتحدّث هذا المقلعط في شؤون العامة، فيعكّ عكّا، والعكّ، في قواميس اللغة، التكرار والرد، بلا فائدة أو إضافة، وهي كلمة فصيحة أيضا، شأنها شأن القلعط.
لا أريد هنا أن أقلعطكم، أو أعكّ، بل هي صرخة، أو أنّة توجّع أطلقها في وجه كل من يعيد ويزيد، محاولا التفسير، والشرح، في بديهياتٍ لا تحتاج لإثبات، أو برهان. ومن ذلك كثرة الرغو الذي يدمن عليه الساسة، وهم يعلمون أن ثلثي كلامهم تكرار وحشو، وهم يعلمون أننا نعلم أن ما يقولون محضُ ثرثرةٍ فارغة، حيث يكرّرون تعبيراتٍ نسمعها منذ سنوات، ولا تحمل معنى ولا معزى، لكنهم لا يملون من الإعادة والزيادة. استمعوا، مثلا، لأي نشرة أخبار، وحاولوا حصر تلك العبارات المعلبة التي نسمعها منذ سنوات، وستدهشون لحجم التكرار الممل والممض والمقرف.
أما المقلعطون من رجال الدين (وليس علماء الدين) ومدّعي الثقافة والعلم الغزير، فحدّث عنهم بلا حرج، فقد ملأ طنينهم الآفاق، وصرت تعجب من غزارة تكاثرهم على نحوٍ يبعث القلعاط في النفس، فتشتهي أن ترى صفحة نت، أو تستمع لنشرة أخبار، أو حتى تفتح صحيفة، إن كان ثمّة صحف تفتح، من دون أن ترى من هؤلاء من يغلب الشيطان بإتقانه الزيف والكذب
والقلعاط، حتى بتّ تحسب أنك تعيش في مستنقعٍ من الكذب والدجل، وادعاء الحفر بحثا عن حقيقةٍ هي أوضح من عين الشمس، ولكن الأبصار تزاول عنها، انحرافا وزيغا عن الحق.
المقلعط، في المطلق، يذكّر بالرويبضة التافه الذي يتصدّى للشأن العام، فيتفلسف علينا ما شاء له التفلسف، مستلهما مقولة جوزف غوبلز وزير الدعاية الألماني في عهد هتلر إبّان الحرب العالمية الثانية: اكذب ثم اكذب ثم اكذب.. حتى يصدّقك الناس ثم اكذب ثم اكذب حتى تصدق نفسك، والغريب أن هؤلاء يصلون فعلا إلى هذه المرحلة الخطيرة من الكذب، فلا يعودون يتذكّرون أنهم يكذبون، خصوصا وأنهم يجدون من المنافقين الرداحين تصفيقا صفيقا، فيستحسنون ما يقولون، ويذهبون في تفسير أكاذيبهم مذاهب شتى، وقد يؤلفون فيها الكتب، ويدبجون المقالات والخطب.
ومن حسن ما فعل الربيع العربي، وثوراته الموؤودة، أنه كشف لنا عن وجوه هؤلاء الكذبة المدعين المقلعطين، بعد أن كانوا يعيشون بيننا بأقنعة الشرف والوطنية والقومية والمثل الرفيعة، حتى إذا حمي وطيس الحقيقة، وألزموا باتخاذ موقفٍ حقيقيٍّ، رموا بعيدا بأقنعتهم، وأسفرت وجوههم عن تفكير جعد، وتآمرٍ مقيتٍ، فصاروا كمن خلعت ثوب الحياء التي لا تأكل بثدييها فقط، بل بما هو ألعن، فاستباحوا كل شيء، ولم يعد له قداسة أو حرمة، ففلسطين هي إسرائيل، وإسرائيل المعتدية الباطلة والكيان المزعوم دولة لها علم وسلام وطني يُعزف في بلاد العرب، وتفرش لكبير القتلة فيها السجادة الحمراء، وقل مثل هذا عن كثيرٍ من انتهاكاتهم كل شيء جميل في حياتنا.
صحيحٌ أنهم قلعطونا، لكنهم أراحونا من حسن الظن، فبعض الظن إثم، وبعضه الآخر فطنةٌ وذكاء واجب، فما بالك حين يتبرّع المظنون به بتقديم كل الأدلة والبراهين أنه خائنٌ لأمته وشعبه، متواطئٌ، بل شريك مع عدوها في إدامة تخلفها وقهرها وتعذيبها؟