إسرائيل ومأزق غزة

إسرائيل ومأزق غزة

15 نوفمبر 2018
+ الخط -
فتح اقتحام جيش الاحتلال الإسرائيلي مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، ليلة 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، صعود نمط جديد من العمليات العسكرية التي تسعى إسرائيل إلى تنفيذها في منطقةٍ ظلّت عصيّة عليها. وقد سعت إسرائيل، عبر هذه العملية الأمنية، بكل جهد، إلى التأكيد على قدرتها تنفيذ عملية اقتحام برّي لقطاع غزة. وهي تحاول، بهذا الاقتحام، الذي تم بسيارة مدنية، وصلت إلى عمق ثلاثة كيلومترات شرقي مدينة خان يونس، التأكيد على مكانة قطاع غزة (الخارج عن سيطرتها) في سياستها الاستعمارية، رغمًا عن انسحابها منها منذ عام 2005.
عملت إسرائيل طوال السنوات التي تلت الانقسام الفلسطيني على تصميم نموذج استعماري خاص، يقوم على "التطهير العرقي"، وبنسخة محدثة ومطوّرة (بحسب التعبيرات الإسرائيلية). يقوم هذا النموذج على عزل القطاع عن العالم، وتطهيره من الفلسطينيين، بفرض الحصار الذي يسير جنبًا إلى جنب مع العدوان العسكري. وقد عملت إسرائيل على تعذيب الفلسطينيين في قطاع غزة وتطهيرهم، باستخدام آخر ما توصلت له التكنولوجيا العسكرية خلال حروبها على القطاع أعوام 2008، 2012، 2014، فضلًا عن قصفها قطاع غزة خمس مرات خلال الأشهر الخمسة الأخيرة. زد على ذلك أنها تسجن أكثر من مليوني فلسطيني، وتفرض عليهم أوضاعًا إنسانية مأساوية.

تسعى إسرائيل الآن، وبكل قوة، إلى تطبيق سياسة "الضبط والتحكّم"، مستغلةً بذلك الظروف الداخلية والإقليمية. إذ ترى أن الوضع الإنساني والاقتصادي المتدهور في القطاع، وصعود السلطويات العربية من جديد بعد انتكاسة الثورات العربية، ووجود إدارة أميركية مقرّبة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، واليمين الإسرائيلي عمومًا، تعتبر عوامل محفزّة لتصعيد سياستها تجاه الفلسطينيين في القطاع. وكما تهدف إسرائيل بهذه السياسة إلى القضاء على ما تبقى من مقاومةٍ فلسطينيةٍ منظمةٍ، تسعى إلى التحرّر من الاستعمار.
ولعل الأسباب الرئيسية للعقاب الجماعي الإسرائيلي تجاه سكان قطاع غزة أنها، أولًا: لاختيارهم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006. إذ عوّلت إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية في ذلك الحين على مرشح حركة فتح، محمود عباس الذي فاز برئاسة السلطة الفلسطينية عام 2005، وحصل، في حينه، على إشادة أميركية وإسرائيلية، ووعده الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بتقديم المساعدات المالية. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، الرئيس عباس بأنه "زعيم واعد"، ودعاه إلى القضاء على المقاومة المسلحة. لذا، لا غرابة أن تعاقب إسرائيل سكان قطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس منذ عام 2007.
وثانيًا: تبدو سياسة العقاب الجماعي متصلة في عملية ضبط الفلسطينيين والتحكّم بهم، وإغلاق كل منافذ المقاومة الفلسطينية. إذ سعت إسرائيل من خلال التنسيق الأمني إلى ضبط المقاومة الفلسطينية والسيطرة عليها في الضفة الغربية، في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. حيث عملت، منذ عام 2008، على إخضاع قوات الأمن الفلسطينية إلى تدريباتٍ على أيدي جنرالات أميركيين، بهدف إيجاد عقيدة أمنية جديدة. وتورد وثيقة "الأمن أولاً" الصادرة عن السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 2008 أن "نقطة البداية الأساسية لإعادة بناء الثقة الإسرائيلية .. هي تقديم جهد لإضفاء الطابع المهني على قوات الأمن الفلسطينية"، من خلال تبادل المعلومات وتسليم المطلوبين الفلسطينيين إلى إسرائيل.
وإسرائيل لا تفعل ذلك خفيةً، إذ تسعى علنا، ومن خلال التنسيق مع السلطة الفلسطينية، إلى الضغط على السلطة من أجل القضاء على المقاومة في قطاع غزة، وذلك يتضح جليًا بتلويح السلطة الفلسطينية أن التهدئة وتحسن الأوضاع في قطاع غزة لن يتم من دون "تمكين الحكومة" في القطاع. وإسرائيل تسعى، من خلال ذلك، إلى تطبيق نموذج الضفة الغربية من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية في غزة.
وثالثًا: تمارس إسرائيل نوعًا من الانتقام تجاه الفلسطينيين، ليس فقط تجاه سكان قطاع غزة، وإنما تجاه كل ما هو فلسطيني. إذ تعمل على إلغاء كل ما هو فلسطيني، أو عربي، يعيش داخل فلسطين، وكأنها تريد محو الفلسطينيين عن هذه الأرض، فمقابل السياسة الإسرائيلية العنيفة والعلنية في القطاع، تقوم إسرائيل بتحويل الضفة الغربية، وبشكل هادئ وبطيء، إلى غيتوهات ومعازل، تهدف منها إلى السيطرة على أكبر قدرٍ ممكن من الأرض، وأقل قدرٍ من العرب. وذلك يسير إلى جانب سياسة سريّة في القدس، تقوم على استلاب تاريخ الفلسطينيين وحاضرهم في القدس، بهدف تهويد المدينة. زد على ذلك أن إسرائيل تسعى، من خلال تشريع قانون القومية اليهودية دستوريًا، إلى جعل السكان الأصليين الفلسطينيين مجرّد عابرين على هذه الأرض. وبهذا تُشغل إسرائيل العالم بشراستها تجاه القطاع، وهي، في الوقت نفسه، تمارس استعمارها الاستيطاني العنصري الإحلالي في باقي الأرض، بشكلٍ لا يقل قمعًا وقهرًا وانتقامًا.
ورابعًا: بَنَت إسرائيل علاقة مهمةً ووثيقة مع مصر، على مدار السنوات الماضية. إذ فتح النموذج المصري بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل في أعقاب زيارة الرئيس المصري، أنور السادات، إلى تل أبيب، المجال لبعض الدول العربية لتحقيق تقدّمٍ في العلاقة مع إسرائيل.
وفي الآونة الأخيرة، سعت إسرائيل، من خلال تعاونها الأمني والاستخباراتي مع مصر، إلى الاستفادة من الأخيرة، من أجل هدم الأنفاق المخصصة لكسر الحصار على القطاع، والسماح لتل أبيب باقتحام مجالها الجوي، بهدف محاربة التنظيمات الجهادية في سيناء. وذلك في مقابل
حصول مصر على دعم وتأييد مالي وسياسي. وقد فتحت هذه المقاربة، إلى جانب نموذج السلام المصري مع إسرائيل، المجال لبعض الدول العربية، لتتبارى فيما بينها لتطبيع علاقتها مع إسرائيل، عبر عقد صفقاتٍ ماليةٍ وعسكرية، وتبادل الزيارات والمعلومات الأمنية والاستخبارية، وذلك في مقابل تسهيل وصول بعض السلطويين العرب الجدد إلى الحكم.
وخامسًا: تتبنّى إسرائيل نظرية الأمن، وهي التي ترى دومًا أن أمنها مهددٌ دومًا من البر والبحر بأي محاولات عربية أو فلسطينية، لشن حربٍ عليها. وتسعى من خلال تبنيها النظرية الأمنية إلى تأمين العمق الإستراتيجي لها؛ وهي التي ترى بأن 40 كلم بحريا كفيلة بتهديد أمنها، وتغفل أنها تسيطر على 273 كلم بحريا من ساحل البحر الأبيض المتوسط.
زد على ذلك أن للمنطقة الجنوبية الواقعة بالقرب من شبه جزيرة سيناء أهمية لدى إسرائيل؛ فهي ذات خصوصية دينية لدى الشعب اليهودي، بحسب معتقداتهم، ولها مكانة مهمة في حفظ أمن دولة الاحتلال، بحيث ترى إسرائيل أن الاستقرار الأمني في سيناء ساعدها في تحقيق مكاسب اقتصادية. لذا، تسعى إسرائيل من خلال تكريسها الهيمنة الأمنية في قطاع غزة، بهدف الدفاع عن نفسها، إلى إيجاد واقع تجني فيه المكاسب الاقتصادية؛ وهي التي تسيطر حاليًا على حقلين للغاز الطبيعي في مياه البحر الأبيض المتوسط.
وعليه، فإن هذه الهيمنة الاستعمارية غارقة في العنصرية والإلغاء والانتقام، ولا تعير اهتمامًا لا للبشر ولا للحجر، إذ لا يقف استعمارها الاستيطاني عند الإنسان والأرض فحسب، بل تسعى إسرائيل إلى تدمير كل شيء. وبعبارة أخرى، تُمعن إسرائيل في تعذيب سكان قطاع غزة من خلال عزل الفلسطينيين وتطهيرهم، وبشكل تتواطأ فيه مصر أيضًا، وتغفل دومًا أن هذا الشعب باقٍ ولن يزول، وسيبقى يقاوم.