مقدمات "أوسلو" الفلسطينية والعربية.. كل شيء أو لا شيء

مقدمات "أوسلو" الفلسطينية والعربية.. كل شيء أو لا شيء

08 أكتوبر 2018

مصافحة توقيع اتفاق أوسلو في رعاية كلينتون (13/9/1993/فرانس برس)

+ الخط -

كشفت هزيمة العام 1967 عن فشلٍ ذريعٍ لحركة التحرر العربية، ممثلةً بالمشروع القومي الناصري، وكان على حركة التحرر الوطنية الفلسطينية العتيدة أن تطرح نفسها بديلا ثوريا حقيقيا، وأن تصنع المعجزات. وفي معركة الكرامة (على الرغم من إنجازها المتواضع)، وجد الشعور الجمعي الفلسطيني إحدى تلك المعجزات. منذ ذلك الحين، ستشهد فصائل العمل الوطني المسلح إقبالاً جماهيريا وشعبياً فلسطينياً واسعاً، وبحلول العام 1969 ستصبح منظمة التحرير الفلسطينية حركة كفاح مسلح، انضوت تحت لوائها مختلف الفصائل الفلسطينية، ومثّلت ما يشبه دولة فلسطينية في المنفى، قدّمت مؤسساتها خدمات اجتماعية كثيرة في مجالات مختلفة، وكانت تجسيدا مؤسساتيا للهوية الوطنية الفلسطينية.

بداية، تمسّك الفلسطينيون، ومعهم العرب، بسياسةٍ رأت الحد الأدنى من حقوق في الكل أو لا شيء، وحظي الكفاح المسلّح المنطلق من الشتات، وعبر عقود، بالإجماع الوطني الفلسطيني، باعتباره استراتيجية أقصر الطرق نحو انتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بعناوينها الكبرى: الدولة والقدس وعودة اللاجئين. 

استراتيجية الكفاح المسلح

لم يكن العمل السياسي والدبلوماسي يقدم تلك النتائج السريعة التي كانت فصائل الثورة الفلسطينية بحاجةٍ إلى تقديمها للجماهير الفلسطينية الحالمة بالعودة والتحرير، فمن طبيعة العمل السياسي أن نتائجه غير مباشرة، وتحتاج إلى عملية تراكمية، ونفس طويل لم يتوفّر للجموع الغفيرة المخنوقة أصلاً في سراديب اللجوء والشتات، والباحثة عن حلول عاجلة لمعاناتهم.

تمّت عسكرة النضال الوطني الفلسطيني، وبدا الكفاح المسلح والعمل السياسي كطرفي نقيض في المعادلة الوطنية. وفي انجرارها وراء العسكرة، عجزت فصائل الثورة الفلسطينية عن تطوير أساليب للنضال الوطني تستطيع الجمع بين العمل السياسي الشعبي والتنظيمي من جهة، وبين الكفاح المسلح من جهة أخرى.

احتاج الكفاح المسلح حواضن شعبية وقواعد آمنة، اتضح لاحقا أنها غير متوفرة، ولم يكن بعيداً عن المزاودات الفصائلية، وعامل استقطاب تنظيمي حزبي. وإذا كانت الفروق الأيديولوجية بين الفصائل، وولاءاتها المتضاربة، قد ذابت في الكفاح المسلح، فإن العملية السياسية التي ستنطلق لاحقاً سوف تُحدث شرخاً كبيراً في الصف الفلسطيني، وستعمق التناقضات بين تنظيماته المختلفة.

رياح التسوية

في ظل سياسة "الكل أو لا شيء" كانت أي مفاوضات على الحقوق تُعدّ من المحرّمات، والحديث عنها يعرّض صاحبها للإدانة والتخوين من جمهورٍ غاضبٍ ومستغضبٍ إعلامياً

وتعبوياً. لكن العرب لم يمتلكوا الوسائل الفعلية لتحقيق تلك السياسة التي بقيت ضربا من يوتوبيا، في ظل موازين القوى السائدة، وأسيرة الشعارات والخطب الموجهة للجماهير، تخدم حالةً من الشعبوية في ظل المنافسة بين النخب السياسية الحاكمة، ولم تستطع السياسة العربية التوفيق بين موقف سياسي صلب متمسّك بالثوابت، وبين التعاطي المرن مع جزئيات القضايا المطروحة في مراحل معينة. ونتيجة لغياب التكامل بين النظرة التحليلية القادرة على القبض على الجزئي الخاص، وبين النظرة الشمولية القادرة على وضع الجزئي والخاص في إطاره العام، أصيبت إستراتيجية "الكل أو لا شيء" بالشطط .

في رسالته إلى الزعيم المصري جمال عبد الناصر (نشرتها صحيفة العمل التونسية في 30 إبريل/ نيسان 1965)، رأى الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، أن إصرار العرب على السياسة الداعية إلى "الكل أو لا شيء" كانت سببا لهزائمهم، فالقوى الدولية، شرقا وغربا، مصمّمة على صيانة السلام العالمي، ومنع أية محاولاتٍ لتبديل الوضع الحالي في المنطقة عن طريق القوة، والدول العربية ليست على استعدادٍ للحرب، ولا تسمح، في الوقت نفسه، للمقاتلين الفلسطينيين أن يقوموا بحرب تحرير وحدهم. وباسم الواقعية السياسية، دعا بورقيبة إلى استراتيجية المواجهة السياسية المرحلية، بحيث يُختار في كل مرحلة هدفاً، أو جملة أهدافٍ محددةٍ بدقة، تتطلب كي يتم تحقيقها حنكة سياسية.

بعد النكسة، حمل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري، إلى مؤتمر القمة العربية المنعقد في الخرطوم (29 أغسطس/ آب - 2 سبتمبر/ أيلول 1967) لاءات أربعا: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، ولا لانفراد دولة عربية بالصلح مع إسرائيل. وافق المؤتمرون على الـ"لاءات" الثلاث الأولى، ورفضوا الرابعة، لينسحب الوفد الفلسطيني احتجاجا. وستؤكد الأحداث اللاحقة أن رفض تبني الرابعة كان مقدّمة لإطاحة بالثلاث الباقية، وأن سياسة "الكل أو لا شيء" أصبحت مبكّراً على المحك. وبدأت السياسات العربية تصبح بورقيبية بامتياز، قبل أن يحتكم إليها الفلسطينيون بسنوات.

عرفات في مؤتمر القمة العربي في القاهرة (25/10/1976/Getty)

كان قبول عبد الناصر مشروع روجرز (وزير الخارجية الأميركي) خطوة أولى على صعيد خرق سياسة الكل أو لا شيء (تضمّن وقفا لإطلاق النار، وقبول جميع الأطراف بقرار مجلس الأمن الدولي  رقم 242). رفضت منظمة التحرير مشروع روجرز باعتباره الخطة التنفيذية للقرار 242 (نصّ على إنهاء جميع ادّعاءات أو حالات الحرب، واحترام سيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة (بما فيها إسرائيل)، والاعتراف باستقلالها السياسي، وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها، حرة من التهديد بالقوة أو استعمالها). وبتحريضٍ من المنظمة، خرجت الجماهير في عمّان، وغيرها من عواصم عربية، في 23 يوليو/ تموز 1970 مندّدة بقبول مصر بالمشروع. أثار ذلك غضب عبد الناصر، ودفع الفلسطينيون ثمنا باهظا في أيلولٍ أسود من ذاك العام.

"فتح لاند".. قواعد غير آمنة

رأت حركة فتح في سياسة عدم التدخل في شون الدول العربية تكتيكاً يُراد منه عدم إعطاء الأنظمة العربية مبرّراً إضافياً لضرب الثورة، وطالب هذا التكتيك في المقابل بعدم تدخل الدول العربية في الشأن الفلسطيني، وكان الحفاظ على هذه المعادلة شبه مستحيل.

بدأ نهج الكفاح المسلح يلقى معوقاتٍ كثيرة تداخل فيها الذاتي والموضوعي، خصوصا حين

يتعارض منطقا الثورة والدولة، ويصبح صعبا ضبط العسكر، والسيطرة على فوهات البنادق، في ظل اضطرابٍ تنظيميٍّ، وتضخم الأجهزة العسكرية لهذا الفصيل أو ذاك على حساب بنيته التنظيمية، في غياب التنسيق، والاتفاق، بين الفصائل المسلحة على أسلوب العنف الثوري، وتوقيته، وحدوده. ولم تكن أيٌّ من الدول العربية راغبةً في ترك زمام المبادرة في يد الفصائل الفلسطينية، بل تفرض لحظة المواجهة ومكانها، خصوصاً في وضعٍ ديمغرافيٍّ يشكّل فيه الفلسطينيون أكثر من 60% من مجموع السكان. لهذا كانت هزيمة "أيلول الأسود" قاسيةً ومكلفة. هناك، انتصرت نظرية اليسار الفلسطيني، ومفهومه عن الثورة المضادّة، على "الاعتدال الفتحاوي"، بينما ساد عربياً منطق التهديدات "الكيسنجرية" بتصفية أي نظامٍ عربي يتساهل في تصفية الثورة الفلسطينية.

بالتوازي مع محاولات التصفية الجارية في الأردن، بدأت السلطات اللبنانية، في أواخر إبريل/ نيسان العام 1969، بتصفية قواعد الفدائيين، وحاصرت قرى: عيترون، وعيناتا، وبيت ليف، والخيام، واعتقلت شبابها من مناصري العمل الفدائي. بعد أشهر من العام نفسه، حصل الفلسطينيون، بموجب اتفاقية القاهرة، على حق المقاومة، انطلاقا من الأراضي اللبنانية بتنسيق مع الجيش اللبناني، سيما في منطقة العرقوب، أو ما عرفت إسرائيلياً ولبنانياً "فتح لاند".

في مناخ سياسي محكوم بحساباتٍ مذهبيةٍ وطائفيةٍ، في ظل صراع دائم على السلطة، ولد اتفاق القاهرة ميتا، ولم يحظ بأي إجماع لبناني. فكان بالنسبة لفرقاء سياسيين لبنانين عديدين أمرا واقعا ينبغي التخلص منه، فُرض بفضل الضغط العربي، وقوة السلاح الفلسطيني، على دولةٍ لبنانية ضعيفة.

عقب اللحظات الأولى للاجتياح الإسرائيلي العام 1982، أطلق الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات، عبارته الشهيرة "يا وحدنا"، وأدرك أن المعادلة لم تعد فلسطينيةً لبنانيةً وحسب، وأن لبنان لم يكن تلك القاعدة الآمنة. استشعر بقرب ساعة المغادرة، وكان عليه أن يحسّن من شروطها، وأن يحدّد محطته المقبلة، وكان مقبلا على خرقٍ سياسيٍّ لما اعتبر طويلا تابو فلسطيني.

عزلة مفروضة وقضايا مؤجلة

أدركت الدول العربية أن تحقيق أي سلامٍ مع إسرائيل يحتاج تنحية الفلسطينيين جانباً، ومعهم

جملة من القضايا التي بدا أنه يستحيل التوصل مع الجانب الإسرائيلي إلى اتفاق حولها، والتي باتت تعرف اليوم بقضايا الوضع النهائي، وقد صرّح أحد مستشاري الرئيس المصري، أنور السادات، قبيل التوقيع على معاهدة كامب ديفيد، لصحيفة بديعوت أحرنوت في 14/12/1977، أن "غياب سورية ومنظمة التحرير المرتقب عن المفاوضات يسهّل إجراءات التسوية، ويمنع وقوع أزمةٍ في المناقشات، بسبب الفجوة الكبيرة في مواقف الأطراف بخصوص القضية الفلسطينية".

استمرت محاولات الالتفاف على تمثيل منظمة التحرير الفلسطينيين، وعزلها عن اللعبة السياسية الآخذة وتيرتها في التسارع، فاستبعدت مطلع السبعينيات من مؤتمر لدول المواجهة مع إسرائيل، بحجّة أنه مُخصص للدول، وكانت دعوة بعض القادة والشخصيات المحلية في الضفة الغربية إلى مشروع الحكم الذاتي بداية لرهاب "البديل الداخلي" لمنظمة التحرير الفلسطينية، وطرح الملك حسين في خطابه في 15 مارس/ آذار 1972 مشروع "المملكة العربية المتحدة". أما مؤتمر جنيف، فانطلق بجلسة مراسمية  قصيرة في 21 ديسمبر/ كانون الأول 1973، تغيبت عنه سورية ومنظمة التحرير، واستثنيت الأخيرة من الدبلوماسية المكوكية الكيسنجرية ما بين عامي 1974 و1975. توّجت العزلة المفروضة على المنظمة في قمة عمّان 1987 التي ركّزت على شؤون العرب الاقتصادية، مع تجاهل تام للقضية الفلسطينية، وعومل الوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات معاملة غير لائقة.

زمام المبادرة ومعارك التمثيل

أعلنت المرحلية البورقيبية انتصارها النهائي على سياسة "الكل أو لا شيء" منذ العام 1987، وشكلت مع مبادرة السلام التي قدمها الأمير فهد بن عبد العزيز إلى القمة العربية في فاس 1982 مرتكزا أساسياً للسياسة العربية، وكانت تسع سنوات تفصل بين قمتي بغداد في 1978 وعمّان في1987، كافيةً لعودة العرب إلى الصف المصري، مقتنعين بضرورة التوقف عن "الاهتمام المبالغ فيه بالقضية الفلسطينية" (عبارة لوزير الشؤون الخارجية المصري الأسبق بطرس غالي لصحيفة واشنطن بوست بتاريخ 15/8/1977). اختار العرب سياسة الـ "لا حرب" وقتا طويلا، قبل أن يختاروا استجداء السلام.

أرادت منظمة التحرير أن تبقى داخل اللعبة السياسية، وإبقاء القضية الفلسطينية في الصدارة في مواجهة التخلي العربي، لكنها ستتنازل عن سياسة الكل أو لا شيء، لتتبنّى برنامجا مرحليا يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية على أي جزءٍ يتم تحريره من الأراضي الفلسطينية، انتزعت موافقة المجلس الوطني الفلسطيني عليه في يونيو/ حزيران 1974. وبعد أن كان الكفاح المسلح استراتيجيةً تهدف إلى التحرير الكامل للأراضي الفلسطينية المحتلة، وإعادة الحقوق المشروعة إلى الشعب الفلسطيني، أصبح تكتيكاً يخدم تحقيق أهداف سياسية مرحلية، منها تعزيز موقع منظمة التحرير في مواجهة الولايات المتحدة، وإسرائيل، والضغط للاعتراف بتمثيلها الفلسطينيين، والتفاوض معها مباشرة دون بوابات عربية.

حظيت المنظمة في قمة الرباط العام 1974 باعتراف عربي ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني (تخفّفت في حينه الدول العربية من أعباء القضية الفلسطينية، ومثالب المسار التفاوضي الفلسطيني)، وباعتراف دول العالم الثالث والكتلة السوفيتية، وتمّت دعوة ياسر عرفات إلى التحدّث في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر/ تشرين الثاني 1974، ومن ثم قبولها المنظمة عضواً مراقباً في الأمم المتحدة وفق القرار3237 الصادر في ديسمبر/ تشرين الثاني 1974، وحظيت في العام 1980 باعترافٍ رسمي بها من المجموعة الأوروبية.

من الشتات إلى الداخل

بعد الاستقرار في تونس، كان على عرفات أن يتعامل مع واقعٍ جديدٍ لم يعد يوفر قواعد مناسبة وآمنة للكفاح المسلح، وكان لا بد من البحث عن أسلوبٍ نضالي جديد، ليصبح الداخل الفلسطيني المحتل المنصة التي ستوضع عليها بوصلة الثورة الفلسطينية، بعد أن كان يسير على إيقاع مدّ الحركة الوطنية وجزرها في الشتات، ولم يشهد، باستثناء انتفاضة يوم الأرض 1976، مقاومةً منظمة وشاملة.

اندلعت الانتفاضة الفلسطينية في ديسمبر/ كانون الأول 1987، واستطاعت قيادة المنظمة تحويل حدثٍ عفوي إلى سيرورة نضالية. كانت "حماس" في طور التأسيس، ومبكّرا بدأ التنافس والافتراق بينها وبين المنظمة وفصائلها، وبدا أن الانتفاضة الفلسطينية، في حينه، هي الحل الأمثل للإشكالات التي حالت دون استمرار الكفاح المسلح المنطلق من الشتات، شكّلت ثورة شعبية وجماهيرية عامة في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وأثبتت فعالية كبرى في إقناع جميع الأطراف بضرورة انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة عام 1967. وكانت الانتفاضة مناسبةً أكد عرفات، من خلالها، قيادته للشعب الفلسطيني في وجه منافسيه، سواء من المعارضة، أو من داخل حركة "فتح" نفسها، ومضى في محاولة تسخيرها من أجل الضغط للاعتراف بالمنظمة في أي مفاوضاتٍ ممكنة، وللقبول بحل الدولتين.

فلسطينيون يرمون الحجارة على قوات الاحتلال الإسرائيلي شمال القدس (21/12/1987/فرانس برس)

وتنقل عرفات، في العام 1987 بين بغداد وتونس، وأعلن المجلس الوطني الفلسطيني في 15/11/1988 في الجزائر عن إقامة الدولة الفلسطينية في المنفى، ولقيت اعترافاً دولياً واسعاً، وشارك عرفات بعد ذلك بشهر في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت اجتماعها في جنيف في 13/12/1988، بعد أن رفضت الولايات المتحدة دخوله أراضيها. وأعلن في كلمته أمام الجمعية العامة عن لجوئه إلى السبل السلمية من أجل حل القضية الفلسطينية، فأطلق مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط. على إثرها فتحت إدارة الرئيس رونالد ريغان حوارا مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس.

حرب الخليج الثانية

شكلت الانتفاضة استنزافا للطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، وما أن بدأت جذوتها تخبو، حتى

اندلعت حرب الخليج الثانية في 16 يناير/ كانون الثاني 1991، بعد رفض الرئيس العراقي، صدّام حسين، الإنذار الدولي للانسحاب من الكويت، وكان على عرفات أن يختار بين تأييد الموقف الدولي متنازلا عن شعبيته فلسطينيا وعربيا والانصياع للإرادتين الشعبيتين الفلسطينية والعربية المتعاطفتين مع الرئيس العراقي، والصدام مع المجموعة العربية النفطية والمجتمع الدولي. لم يجد عرفات طريقا ثالثا واضطر الوقوف بوجه العاصفة.

بالإضافة إلى عزلتها دوليا، خسرت المنظمة دعماً سياسيا، ومالياً ضخماً كانت تقدّمه لها الدول النفطية، وسيتصدّع المجال السوسيولوجي لفلسطينيي الكويت، الأمر الذي سينعكس مباشرةً على الوضع الاقتصادي للضفة الغربية وقطاع غزة، المتردّي أساساً في ظل الانتفاضة الفلسطينية، والذي اعتاشت فيه عديد من الأسر الفلسطينية على التحويلات المالية لأقربائهم العاملين في الخليج، كما سينعكس أيضاً على حراك فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وعملها في الشتات.

الشتات الفلسطيني

لا يمكن الحديث، منذ التسعينيات، عن ثقل تنظيمي فلسطيني كالذي شهده الشتات قبل ذلك سنوات، إذ ازدادت الضغوط المالية على منظمة التحرير، وحاصر عرفات فصائل فلسطينية معينة ماليا. بدأت تلك الفصائل بإغلاق مكاتبها، ودفعتها سياسة التقشّف إلى تسريح أعداد ليست قليلة من كوادرها العاملة. ولم تخلُ عمليات التسريح من البيروقراطية والانتقائية، تبعاً للاعتبارات الفئوية والعشائرية، ما أصاب قطاعاً واسعاً من الكوادر الأكبر سناً بالإحباط واليأس، لاسيما وأنهم لم يعرفوا من المهن سوى "النضال الوطني" داخل صفوف منظمة التحرير، فخسرت بالتالي فصائل المقاومة جزءاً كبيرا من قاعدتها الجماهيرية، إلا أن عوامل أخرى كانت أكثر فعالية في ضعف الالتفاف الجماهيري حول فصائل المقاومة، استمر فيها التداخل بين الذاتي والموضوعي. الاتفاقيات الموقعة عربيا مع إسرائيل، واتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) المبرم فلسطينيا، والذي مثل نقطة تحول جيوبوليتيكية في الصراع معها، كل ذلك، وغيره، فَرَض على الكفاح المسلح المنطلق من الشتات، والذي شكل عامل لحمته وأكثر الأساليب فاعلية في حراكه سياسيا، الدخول في سبات حتى إشعار آخر. وفي غياب بدائل نضالية، عجزت فصائل الثورة الفلسطينية، لاسيما المعارضة "أوسلو"، عن تقديمها للجماهير الفلسطينية في الشتات، واكتفائها بدور المعطل لـ"أوسلو" وعجزها عن بلوغ هذه الغاية، وسياسة الرفض والتأثيم والتخوين والاتهام، وإعادة اجترار هذه السياسة طوال سنوات، من دون طرح بدائل فعلية، في ظل ذلك، كان انعدام فاعلية هذه الفصائل النتيجة الطبيعية، على الصعيدين، السياسي والاجتماعي، أو على صعيد الصراع مع إسرائيل.

أما حركتا حماس والجهاد الإسلامي المنطلقتان نحو الشتات من الداخل الفلسطيني المحتل، فركزتا على العمل الدعوي، وكان عملهما أقرب إلى عمل الجمعيات الخيرية منها إلى العمل السياسي الجماهيري. وبعد أن كان الشتات الفلسطيني مركز الثقل في عمل المقاومة الفلسطينية، بات يشهد حالا من انعدام الحراك السياسي والاجتماعي، مرورا بتصدّع المجالات السوسيولوجية للفلسطينيين، واحدا تلو آخر، وصولا إلى تصفيتها اليوم بتدمير مخيماتهم.

"أوسلو" والجوهري المؤجل

بدا أن سياسة الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، المؤيدة بقوة لإسرائيل طوال الثمانينات قد

ولّت، وأعلن الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، عن رؤيته لشرق أوسط جديد شرط نجاحه معاهدة صلح عربية إسرائيلية، تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. وبعد تحرير الكويت، سينطلق مؤتمر مدريد للسلام في ديسمبر/ تشرين الثاني 1991، بناء على وعد قطعه الرئيس بوش للدول العربية المشاركة في الحلف الدولي ضد العراق. وعقاباً لها، استُبْعِدَت منظمة التحرير الفلسطينية عن المؤتمر، واختُزِل التمثيل الفلسطيني في وفدٍ مشترك مع الأردن. واتضحت سيطرة عرفات على الوفد الفلسطيني، والذي كانت مهمته الفعلية عرقلة المفاوضات على المسار الفلسطيني.

تمخّضت مفاوضات سرية بين منظمة التحرير والجانب الإسرائيلي عن توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993،  والذي تمكّنت بموجبه المنظمة وحركة فتح من الدخول إلى ما عرف بـ"أراضي الحكم الذاتي الفلسطيني"، وانتخب عرفات رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية في 1996. حتى "أوسلو" نفسه لم يكن ممكنا، لولا تأجيل مفردات القضية الفلسطينية الجوهرية تحت عنوان "قضايا حل نهائي". وبانتظار هذا الحل، ستدخل الثورة الفلسطينية مرحلة جديدة، بدا أنها مرحلة بناء الدولة المقبلة مؤسّساتيا. استمر التفرد بالقرار الفلسطيني، وتمت إعادة التمثيل الفلسطيني لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية على حساب المنظمة، والمجلس الوطني، وغيرهما من مؤسسات الشتات التي تعطّلت وعُطّلت فعليا.

بعد انسحاب إسرائيل في العام 2005 من قطاع غزة وتفكيكها مستوطنات القطاع، رفعت حركة حماس شعار "شركاء الدم شركاء القرار"، وكانت عسكرة الانتفاضة الثانية خطأ فلسطينيا فادحا أطلق آلة البطش الصهيونية التي قضت على ياسر عرفات، ومعه مفاوضات الحل النهائي. انتهت الديمقراطية الفلسطينية عند صناديق الاقتراع، وانتهى التداول السلمي للسلطة، بسيطرة "حماس" عسكرياً على قطاع غزة في العام 2007، وتكّرس انقسام جيوسياسي، بات معه كل شيء يخضع لمنطق الصراع على السلطة.

استبداد السلطة في الضفة الغربية، واستمرار تنسيقها الأمني مع إسرائيل، وإسهامها في حصار غزة، جعلها في مواجهة مع شعبها. أما تفرد "حماس" واستبدادها في غزة، وظلاميتها في إدارة مجتمعٍ منهك فقرا وحصارا، وعنترياتها المجانية التي حمّلت غزة وأهلها فوق ما يحتملون، والمنتهية عند حدود التهدئة مع إسرائيل، من دون نتائج تُذكر، زادت الغزّاويين ضيقا على ضيق. وفي ظل عدم وجود إرادةٍ حقيقيةٍ في مصالحة وطنية بين الإخوة الأعداء، وعدم توفر ظروفها المناسبة، استمرت تصفية الوجود الفلسطيني، في حد ذاته، تجري على قدم وساق.

الجديد القديم في صفقة القرن

مضى ربع قرن على اتفاقية إعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبهذه

المناسبة انطلقت تحليلات ودراسات عبر صحف ووسائل إعلام مختلفة ( نختلف مع بعضها ونتفق مع بعضها الآخر بحدود قليلة أو كثيرة)، لكن ما يهم هنا التوقف عنده أننا نلمس شبه إجماع على التعامل مع "أوسلو" بوصفه سببا ومنطلقا لما آلت إليه الأوضاع فلسطينيا وعربيا.

هل كان الوضع أفضل من دون "أوسلو"؟ هذا ما لا يمكن المراهنة عليه، فبعد "أوسلوهات" عربية عديدة، يبدو "أوسلو" الفلسطيني السقف الحتمي عربيا وفلسطينيا تحت ضغط مسار طويل ومتعرّج، خطوطه الأكثر حدّة ووضوحا السعي إلى إزاحة قضايا الوضع النهائي بوصفها عقبةً أمام تسوية سياسية ممكنة بين العرب وإسرائيل، يبلغ هذا المسار إحدى قممه اليوم في صفقة القرن التي تكشّفت خطوات متتابعة وحثيثة لتصفية قضايا الوضع النهائي، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، محاولات تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وتوطين اللاجئين، لفظ الفلسطينيين خارج المنظمات الدولية..، وذلك بتواطؤ عربي ضمني وعلني، وعجز فلسطيني، ذاتي وموضوعي، غير مسبوق.

على أرضية التقاء المصالح في مواجهة التمدّد الإيراني، تسعى الديبلوماسية الأميركية إلى ضمان دعم دول عربية متحمّسة لعلاقات قوية بإسرائيل، وإيجاد مناخ سياسي إقليمي ملائم لعلاقات عربية - إسرائيلية، يستبعد الفلسطينيين أو يمارس الضغط عليهم لقبول الطرح الأميركي، ومزاياه الاقتصادية، على حساب القفز عن جوهر الصراع الأساسي، وهو المشروع الاستيطاني الاحتلالي الإسرائيلي. ولإنجاز ذلك، المطلوب اليوم، كما كان سابقا، إطاحة قضايا الوضع النهائي (القدس، والمستوطنات، والحدود، واللاجئين، والمياه) أي تصفية حقوق الفلسطينيين التي تشكل جوهر قضيتهم. تنسف الإدارة الأميركية مبدأ التفاوض من أساسه، وما على الفلسطينيين سوى الإذعان.

حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.