أزمة نظام فلسطيني أم مأزق قيادة؟

أزمة نظام فلسطيني أم مأزق قيادة؟

30 أكتوبر 2018
+ الخط -
لا يبدو أن شيئا أو حدثا أو أحدا يمكنه أن يعيد النظام السياسي الفلسطيني إلى سويّته المعهودة أو المفترضة، بعد كل هذه السنوات العجاف التي جادت بها اتفاقية أوسلو، وزادتها اعوجاجا عديد من انفلاتات "أهل السلطة" وتفلتاتهم، وهم يتسرّبون خفافا وثقالا، ورويدا رويدا، من صفوف المضمون الكفاحي لمسألة التحرّر الوطني إلى تمنطقات الاستبداد بالرأي الواحد، وتغول الأحادية الفردية، وصولا إلى مستنقعات الانقسام السياسي والجغرافي، وما جرّته تلك المرحلة المبكرة من انكسار النظام السياسي وانفصامه، وردّته وارتداداته على عقبيه، هروبا من مسؤولياته الوطنية؛ تكريسا لخيارات أطرافه وانحيازها لمصالحهم الفئوية والفصائلية؛ وهي الحالة المأزومة التي عشناها كل زمن الانقسام، وما فتئ هذا الأخير يمارس بكل شغف السلطة وأمراضها ومتلازماتها، إيغاله أكثر في عملية تخريب ليس النظام السياسي، بل وما افترض منذ البداية أنه صاحب المشروع الوطني وحارسه وحامل همومه وطموحاته المعبرة عن أهداف الكل الوطني وتطلعاته، بنزوعه ونزعاته التحرّرية، وقد صارت حلما ماضيا بعيدا انقضى.
مضى أكثر من أحد عشر عاما على اقتسام النظام السياسي بجناحيه، بل انفصاله، من دون أن تقوى الحركة الوطنية الفلسطينية على استعادة ألق وحدتها الوطنية المنشودة دائما، لفظا وعاطفة وشعارا وممارسة وسلوكا، وكلها تبدّدت على مذبح تكريس سلطة الفرد والنخب والفئات والفئويات الفصائلية، في اقتسامٍ فاضح لبقايا نظام سياسي هشّ، وحركة تحرّر بقيت دائما على الحوافّ والهوامش، تتعيّش مستندةً إلى رهاناتٍ خاسرة على الدوام، متردّدة وغير واثقة من خطاها؛ إلى أن صارت السلطة هي "الطوطم المقدّس"، حيث جرى تبديد قداسة القضية الوطنية، المفترض عدم خضوعها لمثل تلك الألاعيب والبهلوانيات التي شهدناها ونشهدها تعبث "بأقدار" بل بواقع شعب لا ينبغي تقاسًمه وتقسيمُه بمثل ما رأينا ونرى، كيفية التعاطي مع أهل غزة وأهل الضفة وأهل الشتات، والأهم بمثل ما رأينا ونرى كيفية التعاطي مع أهلنا في مناطق الاحتلال الأول (الجليل والمثلث والنقب) في وقت يعمد الاحتلال الكولونيالي الإسرائيلي إلى إقرار "قانون القومية"، اعترافا منه بهوية يهودية عنصرية وتمييزية، تاركا كل أبناء الشعب الفلسطيني في تلك المناطق تحت رحمة الأبارتهايد العنصري والإجرام الاستيطاني، العامل على محاولة استكمال المشروع التهويدي، وتكامله عبر كل أرض فلسطين التاريخية، وما يجري في القدس ومحيطها وفي الخان الأحمر تحديدا، وفي الأغوار، وفي مناطق عديدة في الضفة الغربية، هي نذر استيطان كولونيالي جديد ومتجدّد، يحاول مرة أخرى إعادة صياغة النكبة الفلسطينية، واستكمال ما لم تستطع ابتلاعه وإخضاعه مخططات المشروع التهويدي، حيث بات الكيان الصهيوني الاحتلالي يقترب من خطوات إنجازه بالكامل، بالسيطرة على كامل أرض فلسطين التاريخية، مع بقاء بعض جيوبٍ فلسطينية هنا وهناك، من دون أن يكون لها أي سيادةٍ على الأرض، أو التواصل مع أيٍّ من الحدود العربية المحيطة بفلسطين.

يجري هذا كله في وقت توغل الولايات المتحدة وإدارة الرئيس دونالد ترامب في تنفيذ "الخطوة التالية" على طريق ازدهار المشروع التهويدي، عبر إصدار مزيدٍ من القرارات ذات الصبغة العدوانية، الهادفة إلى انتهاك الحقوق الوطنية الفلسطينية، بكل ما تحمله من مخاطر جدّية على قضية الشعب الفلسطيني الوطنية، لجهة حسم كامل الملفات الرئيسية لقضايا المفاوضات لصالح المشروع التهويدي، حيث تنقسم تلك القرارات إلى نوعين، منها ما يهدف إلى فرض وقائع على الأرض لصالح الاحتلال، كالاعتراف بالقدس عاصمةً للكيان وضم القنصلية الأميركية أخيرا ودمجها بالسفارة، والعمل على تصفية وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم (أونروا) وإنهاء قضيتهم، مرورا بخطواتٍ عديدة تهدف إلى تعرية الوضع الوطني الفلسطيني وتحويله أقرب إلى التصفية، وانتزاع كامل الحقوق التاريخية لشعب الأرض الفلسطينية، وإجهاض كل مكامن القوة لدى الحركة الوطنية ومشروعها التحرّري، وحسم كامل ملفات التفاوض لمصلحة الاحتلال، وإخراج الطرف الفلسطيني الرسمي من "المولد بلا حمص"، ومحاولة إنشاء ما يشبه "روابط قرى" جديدة، تدير الشؤون المدنية والبلدية لسكان المناطق التي ستبقى خارج السيطرة الإسرائيلية، وهي أقلّ بكثير مما خطط اتفاق أوسلو لجعلها مناطق حكم ذاتي منزوعة السلاح والسيادة والإرادة؛ تماما كما يخطط الأميركيون والإسرائيليون وشركاؤهم الإقليميون لتحقيق أهداف "صفقة القرن"، الماضية في مراوغاتٍ وضعها على السكة التصفوية للحقوق التاريخية لشعب الأرض والهوية الفلسطينية الموحدة، البالغ سكانها نحو 12.7 مليون فلسطيني، نصفهم تقريبا في الشتات. ومن بين العدد الكلي للفلسطينيين هناك 4.8 ملايين فرد يقيمون في فلسطين، منهم 2.9 مليون في الضفة الغربية و1.9 مليون في قطاع غزة، وحوالي 1.5 مليون في الجليل والمثلث والنقب وهي الأراضي التي احتلت عام 1948. وذلك حتى العام 2017، وفق الجهاز المركزي للإحصاء.

باتت مشكلة النظام السياسي الفلسطيني اليوم أعقد كثيرا مما كانته في بدايات الانقسام، وستغدو أعقد أكثر بكثير، إذا استمرت حال الانفصال في التحكّم بآليات مواجهة مهام الكفاح الوطني، وانفصام الكل الوطني إزاء التوافق أو الوحدة على حلقة مركزية واحدة، تنظم عمل جميع أبناء الهوية الوطنية الفلسطينية في كل ميادين المواجهة في الداخل الوطني بكل أطيافه، وفي الخارج والشتات القريب والبعيد. حيث ينقسم الجميع على الجميع، وينفصل الجميع عن الجميع، ولم يبق من صيغةٍ وطنيةٍ جامعة، تلملم أطراف المشروع الوطني، بعد إخراج قوى الداخل الأول (الجليل والمثلث والنقب) من المعادلة، وإخراج غزة أيضا من معادلة وهموم إعادة الوحدة، وفرض عقوبات عليها، وإخراج القدس والضفة من المعادلة نفسها، تكريسا لفردية اتخاذ القرار وأحاديته، والإصرار على "قداسة" التنسيق الأمني، واحترام منطق الزبائنية والشراكة مع الاحتلال، فيما الشتات (خصوصا المخيمات في لبنان) يغرق في مستنقعات اقتتالٍ مفتعلةٍ لصالح قوى إقليمية لها مشاريعها الخاصة، تدّعي الممانعة والمقاومة، وتزعم أنها أدرى بشعاب فلسطين وشعبها أكثر من الفلسطينيين أنفسهم؛ وذلك بتشجيعٍ من بعض المتشدّقين من مناضلي الارتزاق الأيديولوجي ومجاهديه.
في ضوء كل هذا الواقع والوقائع المريرة، هل سقطت صيغة منظمة التحرير الفلسطينية الواحدة والموحدة، قائدة الكيانية الفلسطينية، وهي التي كان ينبغي أن تكون صاحبة السلطة ومرجعيتها الأساس، وليس العكس؟ وهل سقطت السلطة ذاتها في وهدة الفردية والأحادية السلطوية التي تحولت مع الزمن، وبفعل التفكّك والانقسام والتجزيئات الانقلابية، إلى شرعيةٍ تضخّمت معها حالاتٌ سلطويةٌ عديدة مصابة بمتلازمة الاستبداد، أفرادا وتنظيمات؟ وقد أضاع الجميع كل ضوابط ومعايير الشرعية المفترض أنها نتاج العمل الكفاحي والنضالي لقوى المشروع الوطني، ومكونه الأساس، النظام السياسي الذي لم يعش طويلا، إلى أن جرى وأده على مذبح المصالح الفئوية والفصائلية، تلك المستمرة في تبهيت صور النظام والنضال والمشروع التحرّري. وأخيرا إيقاد نيران الاقتتال بين أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات لبنان، في نوعٍ من انقياد الذوات السلطوية والفواعل التسلطية نحو فرض هيمنتها الفئوية والفصائلية، حتى ولو كان الثمن إجهاض المشروع الوطني التحرّري، وهو الهدف الذي تسعى إلى تحقيقه صفقة القرن، وأصحابها المساهمون والمشاركون فيها للتخلص من أبرز قضايا التحرّر الوطني الباقية في عالمنا المعاصر من دون حل أو تسوية عادلة، بل هناك من يستشرس اليوم للتخلص منها، ويسعى إلى تصفيتها نهائيا.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.