حرّية وسخرية

حرّية وسخرية

28 أكتوبر 2018
+ الخط -
"لن يتمكّن أحدٌ من السطو على حريتك، إذا لم تكن قابلًا للتنازل عنها".. ليتني أصغيتُ إليك، يا عبدالستار، وأنت تردّد هذا الشعار في خمسينيات القرن الماضي، لكنتُ الآن بكامل حريتي.
أعترف، يا عبد الستار، بأنني وقعت في الفخ، لكن الأدعى أن لا تلومني الآن؛ لأنك كنت تعرف "الظروف الموضوعية" التي كانت سائدة آنذاك.
ما بالك تغرق في نوبةٍ من الضحك؟.. أه تذكرتُ فأنت كنت تسخر، دومًا، من عبارة "الظروف الموضوعية"، التي كان يتشدّق بها طغاتنا وأحزابنا، على السواء، كلما حاولوا تبرير عملية سطو جديدةٍ على حرياتنا، فيما كنت أنا أنظر إليهم بوقار بالغ، محاولًا إقناعك أن "الجماعة" على حق، فربما كان "الظرف الموضوعي" قاهرًا، ويسوّغ السطو.
ألم تكن فلسطين، مثلًا، "ظرفًا موضوعيًّا" يستحق قضم حصةٍ من حرية الشعوب العربية، لقاء تحريرها؟.. كانت القضية "مصيريةً" يا عبد الستار، وكانت البندقية "سيدة الموقف" آنذاك، وكان علينا أن نخفّض حرياتنا من دون فوهتها، لأنها وحدها من كان يستحقّ الاحتفال الذي باركته أم كلثوم بأغنيتها الحربية الشهيرة: "أصبح عندي الآن بندقية"، أما رصاصها فكان الصوت الوحيد الذي ينبغي أن يكون سيد الفضاء، حيث "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". غير أن سخريتك استفحلت، يا عبد الستار، حين تلقينا أبشع هزيمة عربية مشتركة في تاريخنا المعاصر، من دولة واحدةٍ ذات برلمانٍ وأحزابٍ وحرياتٍ لم يكن صوت الرصاص سيد فضائها، بل صوت المعارضة والمحاسبة واحترام الحقوق.
قبل ذلك، سخرت مني أيضًا، حين استجبتُ لطغاتي، إبّان مرحلة الاستقلال بقليل، وقبلتُ التنازل عن حصّةٍ من حريتي لقاء تأسيس الدولة المستقلة، وتوجيهها نحو الاعتماد على الذات، والتخلص من إرث الاستعمار، والانخراط في ركب التحديث والتطوير. وقلتُ لك إن الثمن يستحق يا عبد الستار، لكنك كنت تجيبني باستمرار: "يا بني، الحرية هي أساس كل بناء، إلا إذا كان المقصود بناء دول للعبيد"، وها هي سخريتك تبلغ ذروتها عقب مرور نحو ثلاثة أرباع القرن على الدولة العربية "المستقلة"، لنخلص من جردة حساباتها بحقائق تفوق نكسات حروبها، حين نقرأ معدّلات التخلف والبطالة والفقر، وهدر الموارد الوطنية، والحروب العبثية، ولنكتشف أن دولة "الاستعمار" العربية كانت أكثر حداثةً من دولة "الاستقلال" التي "نتنعّمُ" في أكنافها اليوم.
تنازلتُ، أيضًا، عن حصةٍ من حريتي، حين أقنعني طغاتي بأن هذا التنازل ضروريٌّ لتحقيق أحلام الوحدة، فاكتشفنا أن ما تحقّق هو الدولة الأفدح قُطريةً في التاريخ العربي، وأن الحدود العربية أصبحت خطوطًا حمراء لا يجرؤ عربي على ذكرها أو مناقشتها، فكيف بمحاولة "التسلل" منها (مصطلح تتبناه أجهزة الإعلام الرسمية العربية، لإلصاق تهمة اللصوصية بكل من يتوّرط بعبور الحدود بين قُطر وآخر).
أما التنازل عن الحصّة الأخيرة من حريتنا، يا عبد الستار، فحدثت خلال الأعوام الأخيرة، حين أقنعنا طغاتنا، أيضًا، بأن هذا التنازل مصيريّ لمحاربة الإرهاب، وصدّقناهم على الرغم من أننا نعلم جيدًا أن هذا الإرهاب إن لم يكن صناعتهم، فهو من مخرجات نهجهم الاستبدادي المزمن، على قاعدة أن "الأنظمة الحاكمة تنتج بالضرورة معارضات من جنسها".
كدتَ تصفعني، يا عبد الستار، أعلم، لكن لم يكن في اليد حيلة، لأن "مسبحة التنازل" كانت قد فرطت وانتهى الأمر.
كان عليّ، منذ البداية، أن أرفض حكم الفرد، حتى لو كان يتمتع بصفات الملائكة؛ لأن الخطر ليس في المستبدّ العادل، إنما في نهج التفرّد بالسلطة الذي يطبقه، ويجعله دستورًا لمن يخلفه. وفي هذه الحالة، علينا أن نقبل بالخلف إن جاء مستبدًا، على غرار الفرق بين جمال عبد الناصر وبين أنور السادات وحسني مبارك.
الآن، لا أحد يستر عوراتنا، يا عبد الستار، فقد انكشفنا، تمامًا، بعد أن وزّعنا حرياتنا حصصًا على سلالة طغاتنا، بل أصبحنا نقرض دين الحرية المخطوفة إلى أجيالٍ تخلفنا، ما لم ينهض جيل جديد، ويصرخ بحدة: "بعد اليوم، لن نتنازل عن حرياتنا لقاء أي قضية مصيرية، مهما علا شأنها؛ لأن خسارة الحرية تعني خسارة الذات قبل خسارة القضية نفسها".

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.