الدينامية متعدّدة الأبعاد لمسيرات العودة

الدينامية متعدّدة الأبعاد لمسيرات العودة

22 أكتوبر 2018
+ الخط -
كان يوم الجمعة الماضي (19/10/2018) مصيرياً في غزة، ليس فقط للمشاركين في مسيرات العودة التي تنطلق كل يوم جمعة نحو السياج الحدودي مع إسرائيل، بل كان يوماً مصيرياً لكل أهالي القطاع بعد أسبوع من التوتر الشديد، وإطلاق الصواريخ من القطاع على إسرائيل، وغارات إسرائيلية على القطاع، وموجة هائلة من التهديدات الإسرائيلية من مغبة تطور المواجهات على السياج واندلاع جولة عنف جديدة، ترافقت مع تعزيزات لجيش الاحتلال على طول الحدود تحسباً لوقوع أعمال عنف كبيرة، قد تتطوّر إلى مواجهة عسكرية، وضغوط كبيرة من مصر على قيادة حركة حماس لكبح الوضع ومنع الانزلاق إلى حرب جديدة.
على الرغم من كل هذه الأجواء الضاغطة، شهدت مسيرة يوم الجمعة مشاركة كبيرة من الجماهير، وكان لافتاً وجود عناصر "حماس" لمنع المتظاهرين من الاقتراب من السياج والحؤول دون وقوع خسائر بين المتظاهرين، ومع ذلك أدى يوم المواجهات إلى سقوط أكثر من مائة جريح فلسطيني، جراح بعضهم خطرة. يحدث هذا كله في ظل ظروف إنسانية خانقة في غزة بعد منع إسرائيل دخول شاحنات السولار إلى القطاع من أجل تشغيل محطة توليد الكهرباء هناك، والذي تعهدت دولة قطر بتمويله، وجدل إسرائيلي حاد بشأن كيفية التعامل مع مشكلة القطاع، وتشديد دولي على ضرورة إيجاد حل للضائقة الإنسانية لأكثر من مليوني فلسطيني تحت الحصار منذ أكثر من عشر سنوات.

ضمن هذا السياق، من المهم الإضاءة على الدينامية متعدّدة الأبعاد التي أحدثتها مسيرات العودة، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها الفلسطينيون في هذه المسيرات خلال أكثر من سبعة أشهر، مائتا شهيد وخمسة آلاف جريح، الغالبية من الشباب والفتيان.
لقد تمكّنت هذه المسيرات من أن تُحدث خلافاً داخل إسرائيل بين المستويين، السياسي والعسكري، بشأن كيفية التعامل مع هذه الظاهرة التي على الرغم من مرور الوقت والخسائر البشرية لم تصبح روتينية، وما زالت تستقطب مشاركة شبان وشابات كثيرين، وتحولت إلى ما يطلق عليه المعلقون الإسرائيليون "حرب إزعاج" حقيقية للجيش المنتشر على طول الحدود مع القطاع، أو بالنسبة إلى سكان المستوطنات المحاذية له، فقد اعتبرت المؤسسة العسكرية الطريقة التي يستخدمها الجيش لمواجهة التظاهرات، أي استخدام نيران القنّاصة وإطلاق القنابل المسيلة للدموع، الأفضل والأقل تكلفة، وقد طالب ممثلو أحزاب اليمين القومي برد أقوى وأكثر عنفاً. ففي رأي زعيم حزب البيت اليهودي اليميني القومي المتشدّد، كل فلسطيني يطلق طائرة ورقية أو بالوناً حارقاً يجب ألا يعود حياً إلى غزة. وتفاقم الخلاف، أخيرا، بين رئيس أركان الجيش ووزراء وأعضاء كنيست من اليمين اتهموا قيادة الجيش بالضعف والتردّد، ورأوا أن سياسة ضبط النفس التي يمارسها الجيش تسببت بتآكل الردع الإسرائيلي، وطالبوا رئيس الأركان، غادي أيزنكوت، بعملية عسكرية ساحقة لقمع التظاهرات وإسقاط حكم "حماس". علماً أن قرار شن الحرب هو في يد السلطة السياسية، أي رئاسة الحكومة والمجلس الوزاري المصغر، وليس في يد قيادة التي مهمتها تقديم توصياتها، لكنها تنفذ توجيهات الحكومة.
على مستوى الجمهور الإسرائيلي، وخصوصاً سكان المستوطنات القريبة من السياج الحدودي مع غزة، مثل مستوطنتي ناحل عوز وكفار غزة، ما يحدث بالقرب من منازلهم يثير قلقهم، ويمنعهم أحياناً من ممارسة حياتهم الطبيعية. وهم يختلفون في ما بينهم حيال ما يحدث، ففي حين يرى مستوطنون ذوو اتجهات يسارية أن الجيش يبالغ في استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين الفلسطينيين، وأن قناصة الجيش يتعمّدون إطلاق النار على العزّل، وإصابتهم إصابات تتسبّب بإعاقة دائمة، يرى آخرون أن "حماس" تستخدم المدنيين والأطفال لغايات سياسية، وأن مطالبة الفلسطينيين بحق العودة مرفوض.
على صعيد الإعلام الدولي، تحظى مسيرات العودة بتغطية إعلامية واسعة، ويجري نقل صورة حية لما يجري على السياج أمام أنظار العالم كله، ما يثير موجة تعاطف دولية مع المتظاهرين العزّل الفلسطينيين الذين يواجهون أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط بوسائل بدائية، مثل مقالع حجارة طائرات ورقية وبالونات حارقة، ومقصّات لقص السياج من دون أن ينجح أحد فعلاً في ذلك. هذه المواجهة غير المتناظرة والسوريالية تشكل حالياً الحدث الأساسي الذي يعيد مسألة طرح مشكلة الاحتلال الإسرائيلي والمعاناة الفلسطينية على جدول الأعمال الدولي.

والدليل على أهمية التغطية الإعلامية الغربية لمسيرات العودة ردة الفعل الإسرائيلية العنيفة على عرض القناة الفرنسية الثانية تحقيقاً بعنوان "Jeunesse estropie" شباب معوّق، والذي يروي قصص شبان فلسطينيين فقدوا أطرافهم برصاص القناصة الإسرائيليين. فقد وجهت سفيرة إسرائيل في باريس رسالة شديدة اللهجة إلى مديرة المحطة، تطلب فيها منع بث التحقيق، لأنه، بحسب ادّعائها، يحمل "رسالة كراهية" تشجّع على العداء للسامية في فرنسا، ويعرض الأمور بصورة غير موضوعية، ويظهر تعاطفه مع حركة إرهابية.
بالطبع، لا يشكل هذا كله تبريراً للخسائر الكبيرة بين الفلسطينيين، ولا للتوظيف السياسي التي تقوم به "حماس" لمسيرات العودة. والأكيد أيضاَ أن هذه المسيرات تحتاج إلى إعادة تزخيم، بحيث تشمل مروحة أوسع من الجمهور الفلسطيني، كما تحتاج إلى تنظيم يمنع وقوع خسائر بين الأبرياء. لكن الراهن حتى الآن أنها، على الرغم من ذلك كله، ما تزال فعالة ومهمة ومؤثّرة وجماهيرية.
رندة حيدر
رندة حيدر
رندة حيدر
كاتبة وصحافية لبنانية متخصصة في الشؤون الإسرائيلية
رندة حيدر