الأيديولوجيا المغلقة والانتقال المؤجّل

الأيديولوجيا المغلقة والانتقال المؤجّل

08 يناير 2018
+ الخط -
الأيديولوجيا، باعتبارها منظومة أفكار تنتظم وفق نسق منهجيّ مخصوص، هي حالة من الوعي الوجودي بالأنا والآخر والعالم على نحو ما، وهي حاضرة في الاجتماع العربي المعاصر بشكلٍ لافت للنّظر، على الرغم من عقود القمع وآلة القهر التي عبثت بأصحاب الرّأي وأتباع المذاهب والأحزاب والمتأدلجين على اختلافهم . وقد تتخذ الأيديولوجيا، باعتبارها تصوّرا للعالم، شكلا دينيّا أو عقديّا أو حزبيّا أو طائفيّا معيّنا. والانتماء الأيديولوجي في عصر التعدديّة السياسية والانفتاح الثقافي خيار شخصيّ، وحقّ لا رادّ له. لكن ما يمكن أن يُؤاخذ عليه المتأدلجون في سياق عربي هو تراقيهم بالأفكار والأشخاص إلى درجة المقدّس، وبالأيديولوجيا إلى مقام الكلام المُنْزلِ الذي لا يحتمل النّقد. بل تبلغ ببعضهم العصبيّة الأيديولوجيّة درجة تصنيف النّاس بحسب هويّتهم السياسية، واستقرابهم أو إقصائهم بحسب مدى ولائهم لحزبه أو إعراضهم عنه، أو نقدهم له. فيتمّ تجريم الفكر النّقدي عملا بشعار "من خالفني الرّأي فهو عدوّي"، وتصبح بذلك الأيديولوجيا بابا لإقصاء الآخر والانكفاء على الذات، وهو ما يتعارض مع المصلحة الوطنيّة التي تقتضي توظيف الاختلاف لإغناء المشهد الثقافي وتنويع الفضاء السياسي وإثراء المشهد الحضاريّ. ثم تسييج التحزّب بالعصبيّة الأيدولوجية، والتعامل مع اجتهادات السّابقينواللاحقين من الزعماء والمنظّرين والمتحزّبين على أنّها عقائد لا تحتمل النّقد والتّبديل، هو طريق إلى تحنيط الفكر وتقديس الأشخاص، ما يحجب التعدّد، ويمنع التطوّر، ويُلْقِي بالمتأدلجين وأتباعهم خارج حركة التاريخ، والحال أنّ الوطن العربي في حاجةٍ إلى مزيد من التنوير والتعدديّة، والتفكير والتثاقف.
ولا يَقصُر النزوع إلى الانغلاق والإقصاء على الجماعات الدينية الطّائفية فحسب، بل الإقصاء سلوك درج عليه علمانيون عرب أيضا، أسسوا أحزابا علمانية شمولية مغلقة، تدّعي امتلاك الحقيقة، واحتكار الحداثة، وتفتقر إلى الديمقراطية الداخلية والنقد الذاتي والتداول الدوري على المسؤولية، فيما تُبدع في تسفيه المخالف، وتحيط الزعيم بهالةٍ من التقديس، وتمنحه صلاحيات غير محدودة. والمتابع لمستجدّات الواقع السياسي بعد الربيع العربي يتبيّن حدّة الصراع على السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين (تونس/ سورية/ مصر)، صراع كثيرا ما غاب عنه منطق التنافس البرامجي، ليحل محل ذلك النفي والنفي المضاد بما يكتنفه من تشكيك، وتخويف، وتعصب وانعدام ثقة بين الفرقاء السياسيين، وهو ما أدى إلى تعميق أسباب الانحياز الحزبي والعصبية الأيديولوجية المغلقة، وأرْبك الانتقال من الثورة إلى البناء الديمقراطي. والناظر في المشهد الحزبي العربي بعد الثورة يلاحظ، بوضوح، حالة التنافي بين الكتل السياسية، فالتنافر بين السياسيين أثّر سلبا على الحراك المدني العربي نحو الحرّية والعدالة والكرامة، واستنزف
التنابذ الأيديولوجي جهدا ووقتا كثيرين، وأجّل الانتقال من الاحتجاج إلى البناء، والتحوّل من زمن الدولة الأحادية إلى عصر الدولة الديمقراطية. ومن الأمثلة الدّالة في هذا الخصوص أنّ حركة الإخوان المسلمين في مصر لم تنجح في الخروج من شرنقة الانعزالية، ولم تتمكّن من إعادة بناء نفسها لتنسجم مع مستجدّات الظرف الانتقالي الجديد. كما أن المعارضة التي ترفع يافطة "الليبرالية" ظلت تنظر إليها، وإلى عموم الإسلاميين، من منظور إقصائي يعتريه كثير من التوجّس والتعميم، والتسليم بأحكام قبلية جاهزة. وفي تونس، على الرغم من أهمية تجربة الترويكا (ائتلاف حزبي جمع بين حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية وحزبين علمانيين: المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات)، فإن حركة النهضة وجدت صعوبة في التعامل مع طيف سياسي علماني معارض (اليسار الراديكالي خصوصا)، رفض وصول الإسلاميين إلى الحكم، وأحجم عن التواصل معهم. كما أربك صعود السلفية الجهادية، بما هي تيار يقصي الآخر باسم الدين، ولا يؤمن بالتعددية السياسية مسيرة الانتقال نحو الديمقراطية، وهدّد السلم الاجتماعي. أما في سورية فغلب التشرذم، والتنازع على أداء المعارضة، وتجلّى ذلك من خلال افتراقها في مستوى الموقف من الحوار مع النظام من عدمه، ومن تسليح الثورة من عدمه، ومن القبول بالتدخل الخارجي من عدمه، ومن خلال الصراع على قيادة الثورة.
بناء عليه، عدم وقوف الأحزاب على أرضية سياسية/ مبدئية جامعة، وعدم اتفاقها على خريطة طريق لإدارة الثورة وما بعدها، وانهماكها في الصراع الأيديولوجي، أسهم في إهدار الرصيد القيمي للثورة، وفي تعطيل عملية الانتقال إلى الديمقراطية. ووفّر ذلك التشتّت الفرصة لدولة العسكر، لتستعيد نفوذها، وتصادر مشروع الثورة والدمقرطة في مصر وسورية، وجعل فلول الثورة المضادّة في تونس يبذلون جهدهم لتبييض النظام القديم والعودة بالناس إلى الخلف. لذلك، من المهمّ بمكان الخروج من أسوار الأيديولوجيا المغلقة، والتحلّي بروح التوافق والانفتاح، تمهيدا لدخول عصر ما بعد الأيديولوجيا وزمن الدولة الديمقراطية التقدّمية الجامعة.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.