الأحزاب الأردنية بين إقدام وإحجام

الأحزاب الأردنية بين إقدام وإحجام

30 يناير 2018
+ الخط -
أخيراً نجح "التحالف المدني" الأردني في إطلاق نفسه مشروع "حزب ديمقراطي اجتماعي"، في اجتماع حاشد عقد يوم 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، في مؤسسة تعليمية خاصة، بعد أن كانت سدت أمامه الأبواب لإشهار نفسه في مركز ثقافي تابع لأمانة (بلدية) عمان، بقرار من محافظ العاصمة. وكان حفل الإشهار حدثاً لافتاً بحجم الحضور من الشباب والنخب السياسية، إذ حشد قرابة الألف مواطن أردني، وفاض ليحتل أيضاً قاعة جانبية فتحت إلى جانب المسرح الرئيسي لكلية الخوارزمي. ومع هؤلاء، حرص رئيس الوزراء الأسبق عبد الكريم الكباريتي، ووزراء سابقون ونواب على مباركة إطلاق مشروع الحزب الجديد، بتصدّرهم المقاعد الأولى للقاعة. كما لم يكن متعذراً رؤية تشكيلات متنوعة من الحزبيين السابقين والنشطاء الاجتماعيين من مختلف المحافظات. وبدلالة هذا الحشد، يمكن القول إن الحزب المنتظر نجح في تقديم نفسه بصورة لائقة.
يعود الاستقبال الحار للتحالف المدني إلى نجاحه في إضافة نكهة سياسية جديدة مفقودة في الحياة السياسية والحزبية الأردنية، فعلى الرغم من وجود 52 حزباً مسجلاً في الأردن، إلا أن قلة قليلة منها استطاعت تمييز ذاتها بهوية واضحة، وأن تزاول تأثيرها على محيطها الاجتماعي والسياسي، بينها أحزاب إسلامية وإصلاحية جديدة، فيما البقية تعيش على ميراثها التاريخي ولونها الأيديولوجي.
وبهذا المعنى، يسدّ التحالف المدني فراغاً سياسياً محدداً، وهو تمثيل تيار عريض من الطبقة الوسطى، يتصدر مبادئه شعار الدولة المدنية الديمقراطية، القائمة على سيادة القانون وحماية الحريات العامة والفردية وتحقيق المساواة بين المواطنين، إلى جانب مبادئ أخرى ذات مضامين اجتماعية واقتصادية، مثل تمكين المرأة والشباب؛ حماية الفئات الضعيفة والمهمشة؛ تأمين العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، تشجيع المنافسة الحرة واعتماد اقتصاد السوق الاجتماعي، ومحاربة الفساد وتفعيل العمل الشعبي ومنع استغلال الدين لغايات سياسية وحزبية. ولا تصطدم المبادئ العامة مع مضامين الدستور الأردني، ولا مع السياسات الإصلاحية المعلنة من الدولة الأردنية نفسها، ومع ذلك تم تعطيل حفل إطلاق التحالف المدني أول مرة، قبل أسابيع، وعومل الوزير الأسبق والوجه الأبرز للتحالف، مروان المعشر، بفتور رسمي، وهو الذي شغل مواقع حكومية ووزارية عديدة أكثر من عقدين.
وحرص المتحدثون في حفل إطلاق "التحالف المدني"، وفي مقدمتهم المعشر، على أن الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، هي المملكة الأردنية الهاشمية، "ذات النظام النيابي الملكي الوراثي"، وأن "العائلة الهاشمية" مظلة للجميع، وأنها الضامنة للوحدة الوطنية.
وامتناع الحكومة عن إجازة حفل إطلاق "التحالف المدني" في 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي (واضطرار "التحالف" إلى إقامة الحفل في قاعة لمؤسسة تعليمية خاصة)، لم يكن المرة الأولى التي تفصح فيها الدولة العميقة في الأردن عن عدائها الحزبية، والأحزاب التي تنطوي على نزعة استقلالية. ففي حقبة الربيع العربي، شهد الأردن صدمة مماثلة، حين تقدم القائمون على تأسيس "التجمّع الحر"، في أكتوبر/ تشرين الأول 2012 بطلب تأسيس حزبٍ، عرّفوه سياسياً بأنه تقدميّ النزعة، ذا لون ديموقراطي اجتماعي، يجد مكانه الطبيعي على يسار الوسط من مكونات الطيف السياسي، حيث "تشكل نهضة الفرد وحرياته وتمتع المواطن بمعيشة كريمة وبحقه بتحديد مسارات حياته في المجالات كافة، صلب اهتمام الحزب وأساسيات قيمه". وعلى الرغم من أن خلفيات المؤسسين، وأوضاعهم الطبقية والوظيفية، فضلاً عن أيديولوجية الحزب، تضعه في خانة الأحزاب الإصلاحية والليبرالية ذات التوجهات الاجتماعية المعتدلة، إلاّ أن وزارة الداخلية رفضت الترخيص لحزب التجمع الحر، متذرعة بأن عدد المتقدمين بطلب الترخيص يقل عن العدد المطلوب، بعد انسحاب عدد منهم من قائمة المؤسسين له. وقد مارست الأجهزة الأمنية، حينها، ضغوطاً مبطنة على عدد من هؤلاء، ليسحبوا تواقيعهم على طلب التأسيس، وقد فعلوا، خشية على مصالحهم من انتقام تلك الأجهزة، إذا لم ينصاعوا.
والملفت تشابه مبادئ "التجمع الحر" الذي رُفض ترخيصه مع توجهات حزب التحالف المدني الذي حيل دون إشهار نفسه في المرة الأولى. فالأول أعلن أنه "ينشد الوصول بالأردن إلى حالة الدولة المدنية الديمقراطية، بمفهومها العصري التقدمي، والتي تكوّن المواطنة ركناً أساسياً فيها، بحيث يحميها القانون والعدالة في تطبيقه، وبما يكفل للمواطن حق التعبير بكافة وسائله، وحرية الرأي والتفكير والمعتقد ويجنب زجّ الدين في السلطة". ويسعى "التحالف المدني" إلى أن يكون الأردن "دولة مدنية ديمقراطية ذات نظام ملكي نيابي وراثي"، ويدعو إلى أن يخضع الجميع لسلطة القانون بحيادية ونزاهة مطلقة من دون استثناء. كما يدعو "التحالف المدني" إلى الفصل الحقيقي بين السلطات، وتشكيل حكومة أغلبية برلمانية، وتطبيق مبادئ الاقتصاد الاجتماعي.
ولافتٌ أن إطلاق "التحالف المدني" حظي بعداء القوتين الرئيسيتين في الأردن معاً، "الدولة العميقة" والتيار الإسلامي الذي باشر حملة تحريض ضده، باعتباره "تجمعاً لكل المعادين للدين.. في شكل حزب جديد"، حسب تعبير النائب الإخوانية ديما طهبوب. ويُظهر القائمون على "التحالف المدني" رباطة جأش في مواجهة الرسائل المعادية الموجهة إليهم من الدولة العميقة (وهو ما لم يظهره مؤسسو "التجمع الحر" قبل سنوات)، حيث واصلوا الإصرار على إطلاق مشروع حزبهم من خلال اجتماع جماهيري حاشد، تصدّرته نخبة وزارية ونيابية، مؤيدة ومباركة، ما وفر للتحالف مظلة حماية سياسية ذات وزن، وهو ما أشاع أجواء التفاؤل والأمل في بناء حياة حزبية دينامية، تفتح الباب أمام عملية تداول السلطة وقيام حكومات برلمانية. غير أن الحياة الحزبية الأردنية شهدت مثالاً معاكساً، وهو إعلان الأمين العام لحزب التيار الوطني، عبد الهادي المجالي، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2017، يأسه من العمل الحزبي "في ضوء السياسات الرسمية المعادية للأحزاب"، وأعلن عن "تشكيل لجنة لتدارس قرار حل الحزب في
ضوء تغييب العمل الحزبي، وعدم اتخاذ إجراءات تشريعية تعمل على تعميق الحياة الحزبية وتقويتها". وذلك على أثر جلسة عصف ذهني للمجلس المركزي للحزب.
والملفت أن الحديث عن المأزق الحاد الذي تعاني منه الحياة الحزبية في الأردن لم يأت من أحزاب المعارضة ذات الطابع الراديكالي، وإنما من قادة حزب وسطي، تأسس على يد نخبة من الوزراء السابقين في عام 2010. كما أن رموز هذا الحزب وقياداته لم يعودوا يتردّدون في التعبير عن خيبة أملهم من مواقف السلطات الحكومية من الأحزاب. فرئيس المجلس المركزي لحزب التيار الوطني، أحمد الحمايدة، أعلن صراحة "أنه لا توجد هناك إرادة رسمية لتطوير التجربة الحزبية في الأردن"، بل "هناك قوى سياسية تتعامل مع الأحزاب وكأنها غير مشروعة، مما أفقد الأخيرة هيبتها". وذهب إلى القول أن "مهمة الأحزاب (الأردنية) ديكورية، ولا يوجد لها احترام من جانب الدولة"، (صحيفة الغد، 8/10/2017). وقد نعى المجالي، في مؤتمر صحافي عقده في مقر "التيار الوطني"، تجربة هذا الحزب الذي يعد تتويجاً لتجربته الحزبية والسياسية، منذ أسس حزب العهد في أواخر الثمانينيات ثم الحزب الوطني الدستوري في التسعينيات، وتساءل: "من يتحمّل مسؤولية تعطيل الأوراق النقاشية الملكية الخاصة بتعزيز الحياة السياسية في البلاد"؟.
صحيح أن المجلس المركزي لحزب التيار الوطني، قرّر في اجتماع يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، عدم الموافقة على حل الحزب بأغلبية أعضاء المجلس (39 مقابل 20 )، إلا أن دوائر عليا للحزب ألمحت إلى دور الأجهزة الأمنية في الضغط على أعضاء الصف الثاني في الحزب (المجلس المركزي) لجهة عدم الموافقة على حل الحزب، كونها خطوة تشكك في جدية عملية الإصلاح السياسي في الأردن.
"التحالف المدني" و"التيار الوطني" مثالان راهنان عن مأزق الحياة الحزبية والسياسية الأردنية، فالقوى المحافظة لا تمانع في أن يصل عدد الأحزاب في الأردن إلى 52 (دزينة أخرى من مشاريع الأحزاب تنتظر الترخيص حالياً). وهو ما يسهم في تبديد هيبة الحزبية والأحزاب في نظر المواطنين، ويجرّد الأخيرة من الشرعية والمصداقية، كما تظهر استطلاعات الرأي. بينما تمعن مؤسسات "الدولة العميقة" في تجريد المواطنين من فرص الفعل والتأثير السياسي والاجتماعي – الاقتصادي، سواء تمثلت في أحزاب أو نقابات عمالية أو مهنية أو منظمات مدنية، فالمجتمع الأردني اليوم في أسوأ حالاته، من حيث تمتعه بالقدرات التنظيمية، وعلى القيام بمبادرات ذاتية.
إصرار "التحالف المدني" على إشهار نفسه، بصورة جماهيرية، وبوجه شبابي، ظاهرة صحية على تململ قطاعات اجتماعية واسعة من الأردنيين، ورفضهم جمود الحياة السياسية، وإصرارهم على شق طريق الفعل والمشاركة السياسية، وعلى وضع حد للاستهتار الرسمي بحقوق المواطنين وحرياتهم. واجتماع 20 كانون الثاني/ يناير بداية لمسيرة طويلة وشاقة، على الأرجح، على طريق تعدّدية حزبية نوعية، تفتح أبواب الإصلاح والتحديث السياسي في الأردن.
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني