دولتان لإسرائيل ولا دولة للفلسطينيين

دولتان لإسرائيل ولا دولة للفلسطينيين

22 سبتمبر 2017
+ الخط -
تواصل الحركة الصهيونية معاركها التهويدية، المستمرة منذ العام 1948 في طول الأرض الفلسطينية وعرضها، خصوصا للمدن التي حافظت على طابعها العربي الفلسطيني، على الرغم من احتلالها وتهجير سكانها، فكانت معارك التهويد في أعوام الستينات والسبعينات في الجليل والمثلث، ولم تزل متواصلة في النقب، من أشرس المعارك التي خاضتها حكومات عديدة متعاقبة.
وفي أعقاب الاحتلال الثاني عام 1967 للضفة الغربية، واصلت سلطات الاحتلال معارك حربها التهويدية في القدس وبعض مدن الضفة، ونجحت في مدينة الخليل في فرض صيغة تقاسمية زمانيا ومكانيا للحرم الإبراهيمي، وهي صيغة تحاول فرضها اليوم في القدس عند حائط البراق وفي المسجد الأقصى، وهي المعركة الأشرس التي لم تنته بعد، فيما هي تتواصل في سياق حروب التهويد التي يبدو أنها سوف تأخذ عديدا من أساليب الفرض والقسر والإجبار، عبر إدخال ترسانة قوانين احتلالية في معارك التهويد، على أمل الفوز بها، في ظل صمتٍ مريب، وعجز غريب، وتواطؤ أكثر غرابة واسترابة.
وأخيرا، أصدرت سلطات الاحتلال قرارا عسكريا، منح المستوطنين الذين كانوا قد استولوا على أحياء وعقارات وسط البلدة القديمة في الخليل، حق تشكيل مجلس إدارة خاص بهم، ومنحهم سلطة إدارة شؤونهم البلدية. وهو قرارٌ يؤشر إلى بداية مرحلة إقامة دولة للمستوطنين وترسيخها، بعد أن نجحت "دولة إسرائيل" في تكريس احتلالها، وباتت في حاجةٍ لترسيخ احتلال مستوطنيها دولة خاصة بهم، تتمتع بقوانين تختلف عن قوانين "الدولة الأم"، وعن قوانين البلديات الفلسطينية.
ولئن كان هذا القرار هو الأول من نوعه منذ احتلال 1967، ويجري إصداره بصيغة قانونية، فمن الممكن تعميمه على نطاق أوسع لتمييز البلديات الاستيطانية المهوّدة عن البلديات الخاصة 
بالفلسطينيين، حيث يكون في الوسع أن تخدم بلديات الأحياء اليهودية اليهود فقط، وهو توجه عنصري فاضح، يمهد لدولة أبارتهايد لا تعرف المساواة ولا العدالة، لا في الأمور الخدمية والبلدية، ولا في الأمور السياسية والاجتماعية أو الحقوقية والقانونية.
وكما سقطت بنود وبروتوكولات عديدة في اتفاق إعلان المبادئ مع منظمة التحرير الفلسطينية (اتفاق أوسلو)، ها هو "قرار الخليل" يسقط البروتوكول الخاص بالمدينة، والمعني بإعادة انتشار قوات الاحتلال، وكان قد وقع عام 1997، ونصّ على سيطرةٍ فلسطينيةٍ كاملةٍ على كل الخليل وسيطرة أمنية إسرائيلية على مناطق (H1) التي يوجد فيها المستوطنون، ويحوّل السيطرة الأمنية الإسرائيلية إلى بلدية، ما يعني تكريس انقسام المدينة، أي عكس ما ذكره البروتوكول أن الخليل "مدينة مفتوحة وليست مغلقة".
في ظل وضع كهذا، يتأكد يوما بعد يوم غياب أي استراتيجية فلسطينية من أي نوع، كما غياب أي تكتيكات تمكّن الفلسطينيين، بوصفهم شعبا صاحب الأرض والحق، من مواجهة ومقاومة سياسات الاحتلال الآخذة بالتغول استيطانيا، وتهويديا في الآونة الأخيرة، خصوصا في شأن مدينتي القدس والخليل، حيث المشروع الصهيوني الاستيطاني يتمدّد، فيما المشروع التهويدي بات يهدد كل ما شرّعته الاتفاقات الإسرائيلية مع الفلسطينيين، في تراجع إسرائيلي ملحوظ، في غياب رؤية فلسطينية واضحة ومنظمة ومنتظمة لما يجري ويخطط وينفذ من سياسات استيطانية وتهويدية، باتت أكثر من متوقعة، ولا تخفى على السياسي الحصيف المسؤول مسؤولية مباشرة عن قضايا شعبه. الأمر الذي يتطلب ردود فعل فلسطينية تتجاوز طبيعة البيانات التي تخاطب مجتمعا دوليا، لا يملك وسائل ضغط على "دولة سوبر" تحميها كل وسائل الحماية المعروفة والمخفية.
هل نحن على أعتاب إقامة الدولة الإسرائيلية الثانية (دولة المستوطنين) على حساب أراضي دولة الفلسطينيين، في الضفة الغربية، تماما كما كانت دولة إسرائيل الأولى قد أقيمت على حساب أراضي الفلسطينيين ووطنهم بالكامل عام 1948؟ وعلى أنقاض "دولة التقسيم" التي وُعد الفلسطينيون بها ولم تتحقق، وها هي "دولة أوسلو" تنحو المنحى من دون أن تتحقق، بل هي تفقد جغرافيا وديموغرافيا مزيدا من مكوناتها الطبيعية لصالح الاستيطان والمستوطنين، في ظل "فرجةٍ" من الصمت والعجز والتواطؤ (حتى الذاتي) من دون أن يرفّ لنا جفن يدمع على ما راح ولم يعد، وإذا ما بقي الحال على حاله، فإنه لن يعود، ولو كان حقا لا يُنازع في عالم يرذل الحقوق وأصحابها الضحايا دائما، ولا يقيم لها ولهم أي اعتبارٍ حقوقي أو قانوني، على ما أظهرت وقائع ومعطيات تعاطي دول العالم مع القضية الفلسطينية طوال مسيرتها التاريخية خلال مائة عام من النكبة، والتمهيد لها تحضيرا لحصولها ولـ "ضمان" استمرارها.
وبعد كل هذه الأعوام الطويلة، تتفتق العقلية الصهيونية عن مزيد من محاولات "كي الوعي الفلسطيني"، بحسب نائب رئيس الكنيست، بتسلئيل سيمورطيتش، في خطةٍ نسبت له، سماها "خطة الحسم"، تهدف إلى تصفية أمل الفلسطينيين في تحقيق أمانيهم الوطنية، مركّزا فيها على مسألة الوعي وضرورة كيه، وذلك من خلال إعلان إسرائيل ضم كل الضفة الغربية، والشروع في طفرة استيطانية كبرى.
ومن الأمور اللافتة ذلك التوافق بين ما تدعو إليه "خطة الحسم" وذلك القرار العسكري الخاص بالخليل، حيث يقترح نائب رئيس الكنيست أن تقدم إسرائيل على حل السلطة الفلسطينية، 
وتشكيل مؤسسات حكم ذاتي محدود الصلاحيات، تستند إلى تدشين ستة مجالس محلية في كل من الخليل، بيت لحم، رام الله، أريحا، نابلس، وجنين، مقترحاً أيضاً أن يمارس الفلسطينيون، في مرحلة لاحقة، حقوقهم السياسية، من خلال التصويت في الانتخابات التشريعية الأردنية.
لم تجد هذه الخلطة العجيبة من يتصدّى لها، أو يفضح مراميها الحقيقية، القائمة على مزيد من التهويد لمناطق الضفة الغربية، المفترض أنها أرض الدولة الفلسطينية الموعودة، كما في أوهام من يسعى وراء التفاوض والتفاوض فقط، خطة لا بدائل لها، بحيث تلغي الأهداف التي يجري السعي إلى تحقيقها، أو تنسف موضوع المفاوضات من أساسه، وتجعله يتم على قاعدة ذهاب الإسرائيليين إليه بدون أي دافع، لتقديم أي شكل من التنازلات للفلسطينيين، وهو الأمر الذي تنفيه وقائع الهيمنة الليكودية المتطرفة على الحكومة، وجر "الإجماع الصهيوني" ومعظم نخب اليمين والوسط وبعض "اليسار" نحو البرنامج الليكودي إياه الذي سبق لنتنياهو أن فاز على أساسه في الانتخابات في العام 2015، نافيا أو ناسفا وعوده في خطاب بار إيلان بشأن "حل الدولتين".
وها هو "قرار الخليل" و"خطة الحسم" يؤكدان ذلك، في تمهيد واضح لإقامة دولة القوانين الخاصة بالمستوطنين، على حساب الدولة الخاصة بالفلسطينيين، والإبقاء على حكم ذاتي محدود لهم في ما يتبقى لهم من أراضٍ وسلطاتٍ لا سيادة لهم عليها. فهل هذه هي "صفقة القرن التاريخية" التي تعد بها إدارة ترامب الأميركية، لتجد من يصدّقها ويصادق عليها، ليقيم قصورا من الأوهام على رمالها المتحركة؟
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.