كينيا.. أمل الديمقراطية الأفريقية

كينيا.. أمل الديمقراطية الأفريقية

19 سبتمبر 2017
+ الخط -
بين أفريقيا والديمقراطية تعبّد الطريق بدماء كثيرة. وبعدما ألغت المحكمة العليا في كينيا، ولأول مرة في تاريخ القارة، نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت يوم 8 أغسطس/ آب الماضي، لارتكاب لجنة الانتخابات "تجاوزات ومخالفات"، يبدو أنّ الطريق أصبح ممهداً لممارسة ديمقراطية نزيهة، على الرغم من العنف.
لا يختلف الطريق الوعر الذي تسلكه كينيا نحو الديمقراطية عن غيرها من الدول الأفريقية، إلّا أنّ إلغاء النتيجة التى منحت الرئيس أوهورو كينياتا ولاية ثانية من خمس سنوات، وأمر المحكمة العليا بإجراء انتخابات جديدة خلال 60 يوماً، يجعل من كينيا نموذجاً للديمقراطية في أفريقيا، وينثر روحاً من التفاؤل ببداية جديدة للقارة.
سبق العنف حتى الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بعمليات تعذيب وقتل، كان من ضمن ضحاياها أعضاء في اللجنة المستقلة للانتخابات، وهي الهيئة الرئيسة التي تُشرف على استطلاعات الرأي في نيروبي وضواحيها. ولم تلبث أن ظهرت النتيجة بفوز الرئيس منذ 2013 أوهورو كينياتا بولاية أخرى ضد منافسه، زعيم المعارضة رايلا أودينغا.
المرشحان الرئيسيان، شاغل المنصب أوهورو كينياتا ومنافسه رايلا أودينغا، ينتميان للعائلتين السياسيتين الرئيسيتين في البلاد، واللتين قاتلتا من أجل السلطة منذ استقلال البلاد عن الاستعمار البريطانى عام 1964. فالرئيس الحالي كينياتا هو الابن الثالث لجومو كينياتا، الناشط الذي درس في بريطانيا وأصبح أول رئيس للبلاد في عام 1964. وكان شخصية رئيسة في الحملة المناهضة للاستعمار، وتمت إدانته للعب دور رئيسي في الانتفاضة المسلحة ضد المستعمرين البريطانيين. وبعد سبع سنوات قضاها في السجن تم إطلاق سراحه، وفقاً لاتفاق بجعله أول رئيس بعد الاستقلال الصوري، مقابل عدم المساس بملكية الأراضي الكينية التي نهبها المستوطنون البيض، ليصبح رئيساً للوزراء عام 1963، ثم أول رئيس أسود للبلاد عام 1964 وحتى وفاته عام 1978.

أما رايلا أودينغا فهو نجل أوجينيجا أودينغا الذي الذي كان عضواً بارزاً في حركة الاستقلال، وعيّنه جومو كنياتا، نائباً له. لكن سرعان ما اختلف مسارا الرجلين، فاتجه جومو كينياتا إلى الغرب، بينما تبنى أودينغا أفكاراً اشتراكية، واتجه صوب الاتحاد السوفييتي والصين، وأسس حزباً يسارياً عام 1996، حظره بعد ثلاث سنوات الرئيس جومو كينياتا، ووضع أودينغا في مركز احتجاز حكومي.
وعلى الرغم من نجاح أوهورو كينياتا في تحقيق بعض الإصلاحات، إلّا أنّ كينيا تواجه مصاعب جمة، يتهمه فيها خصومه بأنّه لم يعمل بما فيه الكفاية لإزالتها، وأكثرها الفساد. وفي المقابل، كان محور حملة أودينغا الانتخابية مكافحة الفساد والفقر. وقد اتهم الرئيس أهورو كينياتا زعيم المعارضة أودينغا بأنّه يحاول تقسيم الأمة وإثارة العنف، والواقع أنّ الأرض مهيأة لهذا العنف، نسبة للحشد العرقي لكلّ طرف. كما اتهمه أودينغا بتزوير الانتخابات وتغيير النتائج لصالحه، في حين أنّ مراقبي الانتخابات ذكروا أنّ التصويت كان سليماً وحراً ونزيهاً، مع تعنت أودينغا الذي رفع عريضة إلى المحكمة العليا يطعن في نتيجة الانتخابات، ويتوعّد بأنّه حتى لو قضت المحكمة بصحتها لن يكون ذلك نهاية الأمر، وسيواصل مؤيدوه الاحتجاجات السلمية.
مرّت كينيا من قبل بفترات انتخابية عديدة متوترة، ونجحت في اجتيازها. ووضعت معركة الانتخابات الرئاسية في أغسطس/ آب، ونتائجها المتنازع عليها، الفائز أوهورو كينياتا (مثلما وضعته في انتخابات مارس/آذار 2013) أمام تحدّي توحيد بلدٍ مزّقه العنف العرقي وانعدام الثقة. ولكن هذه الأحداث تعيد إلى الذاكرة ما جرى قبل عشر سنوات، والاضطرابات التي أعقبت التصويت المتنازع عليه في عام 2007، حيث خلّفت أحداث العنف أكثر من 1200 قتيل، ومئات آلاف النازحين، حيث أُجبر حوالي 600 ألفٍ شخص على الفرار من ديارهم. انتهى التصويت وقتها بفوز الرئيس مواي كيباكي، غير أن رايلا أودينغا وصف عملية الاقتراع بأنّها مزورة، واندلعت الصدامات ولم تنته إلّا بوساطة الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان الذي ساعد في تهدئته، وتوليه رئاسة الوزراء. وهذه هي الهزيمة الثالثة التي تلحق بمرشح المعارضة، رايلا أودينغا، على التوالي، وكانت سبباً في تعزيز مخاوف أنصاره من أنّهم يتعرّضون مرة أخرى للخداع، لإبعادهم عن السلطة بهيمنة مجموعة كيكويو العرقية.
مزيجٌ من المشكلات يتعلّق بالنموذج الديمقراطي الكيني. الأولى، العنف العرقي المشحون سياسياً والذي كان حاضراً في المشهد السياسي الكيني منذ الاستقلال، ومروراً بالتعددية الحزبية. ولكن منذ انتخابات 2007 أصبحت الولاءات العرقية هي السائدة لدى التنظيمات السياسية التي تحشد مناصريها للتصويت على أُسس عرقية، لتعزيز مصالحهم الخاصة. الثانية، قضايا الفساد المتعلقة بقضية التنمية. فقد عملت التنمية على توليد ضغوط على المجتمع الكيني، تتغذّى على جذور الصراع الراسخة. كما أنّ التغيرات السريعة في انتقال المجتمع من البداوة إلى التمدّن عملت على زيادة التفاوت بين الطبقات، حيث يستفيد بعض الأفراد أو الجماعات من ارتفاع الدخول، بينما يُحرم غيرهم من ذلك. تُفسَّر المعضلة بأنّ هناك علاقة بين التنمية والاستقرار السياسي في تفاصيلها الدقيقة. ولأنّ العنف من طبيعة المجتمعات عندما تكون هناك حساسية عِرقية وإثنية، فإنّ التنمية في كينيا أحدثت مزيداً من المظالم، نتيجة التغيرات الحادة في المجتمع الكيني، وأوجد النمو السريع للاقتصاد توزيعاً سيئاً، فعلى الرغم من الإصلاحات
ومشاريع التنمية التي ترعاها المنظمات الدولية، إلّا أنّه تعذّر تقليص الفوارق والتفاوت بين طبقات المجتمع. وتمثل جرائم الفساد في كينيا الرشوة وإساءة استخدام السلطة، واختلاس الأموال العامة، والحيازة غير القانونية لأراضٍ عامة. ولذا، عندما تُتخذ كينيا نموذجا للتنمية، وأكبر اقتصاد في شرق أفريقيا، فإنّه يجب أن يؤخذ في الحسبان واقع نموذج التنمية في صورتها الحقيقية. وتلتقي التوترات العرقية التي ابتلي بها المجتمع والاقتصاد الكيني، مع إسناد الوظائف الحكومية تبعاً للأصول العرقية، وليس من خلال تقديم مبادئ العدالة والشفافية والموهبة والتأهيل وتطبيقها.
ما يُستفاد من التجربة الكينية أنّه على الرغم من دموية العملية الديمقراطية، إلّا أنّها ليست كفجيعة التحولات الديمقراطية في جانب آخر من أفريقيا. وعلى الرغم من أعمال العنف، إلّا أنّ الشعب الكيني يستطيع التعبير عن رأيه بصوت مسموع، ما يدلّ على انخراطه في العملية الديمقراطية، كما أنّه يستطيع إلزام حكومته بحكم القانون. في ظل ظروف الفوضى هذه، ومثل الدول الأفريقية، يجد المجتمع الدولي عادة الفرصة لأن يتدخل، ويدفع باتجاه التسوية لمن يريد، غير أن الوقت، في الحالة الكينية، ما زال متاحاً لوضع الأمور في نصابها.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.