استهداف القيم في العراق

استهداف القيم في العراق

06 اغسطس 2017
+ الخط -
ما من أمة جرى احتلالها، إلا وكانت قيم هذه الأمة، الدينية والاجتماعية والتربوية، تحت مجهر المحتل، لإحداث ما يمكن من تأثيرات عليها، ثم استغلالها لتطويع إرادة هذه الأمة، وتسهيلا لما يسعى المحتل إلى تنفيذه من أجندات في البلد الذي يحتله.
وتؤكد تجارب التاريخ أن تداعيات أسهمت في إحداث عمليات هدم لحضاراتٍ، أو إيقاف لنموها، وبناء مجتمعاتها من خلال ما ساقه المحتل، سواء بالقوة المفرطة أو بإشاعة الفساد، والأهم هو إيجاد التيارات والقوى من داخل البلد المحتل، لتكون شوكة مؤذية في خاصرة التيارات الأخرى، وبالنتيجة، في الوطن نفسه، أرضا وشعبا وسلوكا.
العراق، منذ احتلاله من الولايات المتحدة عام 2003، جهزت له آليات تغيير ثقافي واجتماعي وسياسي وقومي، والأهم طائفي. وربما بدا هذا التجهيز واضحا في "مؤتمر لندن" سيئ الصيت في العام 2002، سواء بالتشكيلة الحاضرة، والمصنفة مذهبيا وقوميا وسياسيا، أو من خلال جملة القرارات التي توصل إليها المجتمعون تحت المظلة الأميركية والبريطانية، والتي كانت قاعدة البناء الأولى لعراق ما بعد الحكم الوطني، ووضعها الحاكم الأميركي المدني، بول بريمر، مرجعية له عند محاججة القيادات والكيانات الموقعة على اتفاق لندن في أي قراراتٍ أصدرها.
استخدام الخطاب الديني المسيس، وإظهار المرجعيات الدينية كأنها بيضة القبان لكل مجريات الأمور في العراق، سياسيا وإقتصاديا وعسكريا وأمنيا كان أول مظاهر استهداف القيم في العراق، حيث تحولت هذه المرجعيات إلى مصدر مُستغل (بضم الميم) لمساعدة المحتل الأميركي، ومعه، بالتزامن، المحتل الإيراني، ساهم في إقناع الموالين لهذه المرجعيات بقبول الأمر الواقع، واعتباره جهدا في إعادة بناء العراق الجديد، فيما كان، في حقيقة الأمر، معول هدم لمفهوم العنصر الديني، واستخداماته في العراق، طوال تاريخه الحديث. وبدل أن يكون الدين جامعا للعراقيين، تم تحويله إلى عنصر رئيسي من عناصر الفرقة والتسييس الطائفي، وتحشيد كل طائفة تجاه أختها من خلال الخطاب الإعلامي الرسمي، أو الممارسات الحزبية. وسرعان ما تحولّت، وبإسناد المرجعية، إلى مليشياتٍ تجاوزت حدود الحشد اللفظي إلى الحشد (الشعبي) ضد المكون الآخر، وساهمت الحكومة العراقية في إطلاق يد هذه المليشيات، ومنحها صفة رسمية للقتل والتهجير وتدمير المدن، ثم تغييرها ديمغرافيا، وفقا لرؤى مرسومة بدقة من كلا المحتلين.
المنظومة الأخرى، وهي مهمة جدا، كانت المنظومة التعليمية والثقافية، وهذه هي التي ربما
ستؤخر العراق أجيالا عديدة عن النهوض والعودة إلى طريق الحضارة الإنسانية، فقد تم نسف أركان التعليم، لتتهدم الجدران تلقائيا، وباتت المناهج تحت سلطة أتباع الولي الفقيه، ليملأوها تفاهات وأفكارا أعادت طلبة العراق في المدارس الابتدائية، وحتى الجامعات، أعادتهم إلى عصور الظلام، كما كرّست المناهج والتعليمات الخاصة بالتعليم (الطائفية) وجعلتها ركنا مهما في الإعداد النفسي والتربوي للجيل الحالي، مع زيادة جرعات هذا الأمر كل عام بشكل أكبر وأكثر تركيزا، في غياب أي ردود أفعال من المنظمات العراقية أو العربية، أو حتى المنظمات الدولية المعنية بالتعليم.
المسرح والفنون التشكيلية والشعر والقصة وكل أنواع الفنون باتت من الماضي، وجل مثقفي العراق هم في خارج الوطن، أو تحت ترابه، كما أن التراث العراقي، وكذلك آثار حضارات وادي الرافدين، باتت أمرا هامشيا جدا في الذات العراقية التي كانت متمسكة جدا بهما قبل عام الأحتلال، وأحد أهم أسباب تهميشها لا مبالاة الحكومات العراقية المتعاقبة بعد الاحتلال بموضوعة الحفاظ على التراث، ومحاولة إحيائه، وكذلك متابعة شؤون الآثار العراقية التي سلبت ونهبت في أثناء وجود القوات الأميركية في العراق، ثم تهريبها إلى عدة دول، حتى باتت مسألة المتاجرة بقطع أثرية من سومر أو بابل أو آشور وأكد وغيرها أمرا عاديا تساهم فيه أحزاب حاكمة، وشخصيات نافذة في تعزيز قدراتها المالية الحزبية أو الشخصية.
زاد ظهور تنظيم داعش من الطين بلة، حيث استخدم هذا التنظيم، ومنذ عام، احتلاله مدينة الموصل (أغسطس/ آب 2014) أسلوب التكفير وإقامة الحدود تحت يافطة (الخلافة) الإسلامية، وهو ما أفضى إلى انتشار الإرهاب في العراق وفي المنطقة، وقد دمرّ هذا التنظيم آثارا عراقية تاريخية مهمة جدا، كما دمرّ أضرحة أنبياء عديدين في الموصل تحديدا، وشواهد تاريخية عديدة دالة على عراقة هذه المدينة، للبروز إعلامياً ولفت الانتباه إليه. أما المتبقي من المدينة، بكل تاريخها، فقد أباده الجيش العراقي والحشد (الشعبي) وطيران التحالف الدولي عند عمليات "تحرير الموصل" أخيرا.
أخذت القبيلة أو العشيرة في العراق نصيبها، وما زالت، في عمليات استهداف القيم؛ من خلال
توظيف ممارساتها وضوابطها الأجتماعية، بدلا عن القانون، وهو أمر أدى إلى إشاعة الفوضى والرعب المجتمعي، من خلال جملة من الممارسات القبلية في إيقاع القصاص والحدود بحق آخرين، نتيجة حوادث عامة، كحوادث السير أو رفع يافطة متهالكة من أمام واجهةٍ لمكان ما.. إلخ/ والعودة إلى فرض "الديّة" على مواطنين لا يملكون حولا ولا قوة ولا مالا، وهو ما أذل كثيرين ممن يعيشون في المدن، والذين لا تربطهم روابط أو ممارسات عشائرية قوية، تسمح بالفصل في الديّات، أو في الدفاع عنهم.
هذا وجه، والوجه الآخر يتعلق بشراء ذمم شيوخ قبائل بالدعم المالي للوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، في الانتخابات النيابية أو البلدية العراقية. وبذلك، تخرج القبيلة من كونها ملاذا وطنيا آمنا للقيم الأجتماعية الرشيدة إلى جزء رئيسي من عملية تنصيب، وإدامة تنصيب، الفاسدين والمارقين وقتلة الشعب.
وفي إطار القبيلة أيضا، عمدت القوى المدعومة من الحكومة العراقية، والتي تتستر بأستار المرجعية وعناوينها، إلى التعرّض لشيوخ المكون الآخر وقبائله، ولإخراجهم من دائرة ضبط النفس أو القنوط إلى عشرات السنين. واتخذ هذا التعرّض صيغا عديدة؛ يتمثل بعضها بإساءة معاملتهم خلال عمليات إعادة المناطق التي كانت تحت قبضة "داعش". ويتمثل الآخر بالإساءة إلى أعراضهم، وهي من المقدّسات القبلية، ومقاييس الشرف الذي لا يمحوه إلا الدم، وهو ما لا تستطيع القبائل المستهدفة الرد به، بسبب عمليات التهجير الواسعة لمنتسبيها، وتشتتهم داخل العراق وخارجه.
الاعتقالات غير القانونية، القتل الممنهج، اختطاف الناس، وهدر كرامة الإنسان في العراق بالعنف والترهيب وغياب القائم على تحقيق العدالة بقوة القانون، كلها تسببت في تشويه قيم العراقيين التي كانت من رموزهم، على اختلاف مناطقهم ومعتقداتهم، وساهمت، وباضطراد مستمر في استسلام العراقيين، والشعور بالعجز من موضوع الخلاص من الكابوس المظلم والبشع للسلوك الإيراني المبرمج في العراق، والذي وضعه الاحتلال الأميركي، لإفقاد أهم عناصر قوة الشعب وديمومته، لإخراجه تماما من دائرة التأثير في الشرق الأوسط الجديد.
F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن