عن وادي أبو جميل وعمتيّ والقط تيب توب

عن وادي أبو جميل وعمتيّ والقط تيب توب

15 اغسطس 2017

(أيمن حلبي)

+ الخط -
كان ثمّة طريق نسلكها أسبوعيا، بعد ظهر أيام الأحد، لزيارة عمتيّ، فيكتوريا الأرملة وإميلي العزباء، القاطنتين معا في حي وادي أبو جميل، الواقع في وسط بيروت. كنّا نفرح بارتداء أجمل ثيابنا، وركوب السيارة الشيفروليه البيضاء المتّسعة كصالون بجلدِها الأحمر الأنيق، والعبور من الضاحية الشرقية لبيروت، إلى غربها، سالكين الطريق البحرية التي تمرّ بنا بالمرفأ حيث كان يعمل أبي، وبتلك الشوارع الجميلة التي كانت الفنادقُ تحفّها على الجانبين، ويكسوها ذاك الحجر الأسود المقطّع مربّعاتٍ صغيرة، تجعلنا نهتزّ قليلا في سيرنا، عابرين سكة الترامواي الذي غادر المدينة، وبقيت سككُه الحديدية الملتاعة في أشعة الشمس، شاهدة على ماضيه.
كانت زيارةُ عمّتينا نزهةً ننتظرها كل أسبوع، خصوصا في فصل الشتاء، حين لا تأتيان هما إلى زيارتنا، إذ كان الربيع مخصّصا للتعرّف إلى مناطق لبنان، والصيف للاصطياف في جبلنا البعيد، وكانت تلك الزيارة العائلية تفرح قلوبنا الصغيرة، فلا نملّ الأحد إثر الأحد، الذهاب إليهما، مقتنعين بأن في غرابة شقتهما التي لا تشبه شقتنا، وحيّهما الراقي الذي لا يشبه حيّنا، انتقالا إلى عالمٍ آخر مليءٍ بالمغريات، بدءا من الأثاث الذي كانت تكثر فيه تلك الأغراض الصغيرة التي لا نجد لها فائدة أكثر من كونها ألعابا هشّة تزيّن ولا يحق لنا لمسها، وصولا إلى وجود "تيب توب"، الابن الوحيد للعمّة إميلي الذي غالبا ما كنّا نجده جالسا في حضنها، فيما كانت تسترسل هي في رواية جولاته وصولاته بين شرفات طوابق العمارات المتلاصقة ومغامراته مع قطط الحيّ والجيران.
نصعد الدرجات المصقولة اللامعة، ذات اللون الأصفر الترابي، حتى الطابق الثالث، فيستقبلنا الجيران تباعا، جيرانٌ لا يشبهون جيراننا القادمين في معظمهم من الأرياف أو من البلدان المجاورة، منادين على العمتين أن حضر أخوهما مع عائلته. يفرحون بنا ويتكلمون بأصواتٍ هادئة، متساوية النبرة، لا تصعد ولا تنزل، ويعاملوننا في كل مرة وكأنهم لم يروْنا منذ أعوام، وكأنها زيارةٌ مفاجئةٌ لم نقم بها إلى هنا منذ عقود. نطرق الباب الخشبي والزجاجي، فيستقبلنا مواء تيب توب، الهرّ الأسود تماما، ذو العينين الخضراوين، ابن الحسب والنسب الذي بقينا مصدّقين سنواتٍ أنه ابن العمة الذي يساوينا ترتيبا في العائلة، ومنزلةً في القلوب.
تجلس فيكتوريا بخفّها الجلدي المصلّب ذي الكعب الفلّيني المرتفع بشكل متساوٍ، والذي بقيت مخلصةً لشكله وارتفاعه حتى مماتها، مباعدة قليلا ما بين ساقيها، وبين شفرات مروحتها اليدوية ذات الرسوم الجميلة التي لا تفارقها، لا صيفا ولا شتاء، فيما تُنهي إميلي صباغ أظافرها الطويلة الحمراء، قبل أن تنهض لإعداد القهوة التي ستكثر فناجينها على الصينية، إذ لا ندري كم من الجيران قد ينضمون.
كان سكّان بناية عمّتيّ يبدون وكأنهم كلهم من النساء، أو هكذا كان يخيّل إلينا، فكنّ، لسببٍ ما، يشبهن العمّات، ثم حين كبرنا بعض الشيء، عرفنا أن معظم سكّان "الوادي" كانوا من اليهود الهاربين من سورية والعراق وحتى إيران، ولم يكن ذلك ليزيد أو ليُنقص شيئا من علاقتنا بذلك الحيّ، بل أنه ربما أضاف إلى فرادته وغرابته شيئا لم ندرك كنهه، إلا بعد سنوات طوال. وحين راحت العمّتان تودّعان الجيران، عائلةً تلو الأخرى، كنّا نشعر بذاك الحزن الذي كان يقبض قلبيهما، حتى جاء دور فيكتوريا التي التحقت بابنتها المتزوجة في فرنسا، وبقيت إميلي وحيدةً مع تيب توب، في العمارة التي أصبحت لاحقا خط تماسٍ في حرب أهلية طالت، ولم تُفرغ الحيّ فحسب من يهوده، بل أفرغت حتى البلاد من سكانها.
اليوم، أعبر في وادي بو جميل الذي لم يبق منه سوى الاسم، وأتذكّر عمتيّ اللتين غادرتا الحياة، وجارتهما اليهودية في الشقة المقابلة التي هاجرت إلى أميركا وبقيت، إلى حين، تتصلّ لتسأل عنهما. وحده مبنى ستاركو يذكّرني بأني في المكان، ذاك الذي ارتبط بطفولتي، ونسج علاقتي ببيروت، وعلّمني أنه كان للمدينة ذات يوم أهلّ من كل الانتماءات.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"