فرنسا الذاهبة بقدميْها إلى الحائط

فرنسا الذاهبة بقدميْها إلى الحائط

26 مارس 2024

حشد في باريس في وقفة تضامنية مع غزّة (23/3/2024/الأناضول)

+ الخط -

لنُعِد الشريط إلى الوراء 
صباح يوم الثلاثاء الواقع في 12 مارس/ آذار الجاري، وهو اليوم الذي خُصّص لمؤازة غزّة والشعب الفلسطيني على مستوى الجامعات الأوروبية، نظّم نحو ستين طالبا وقفة احتجاجية بعد احتلال المدرّج الرئيسي في معهد العلوم السياسية في باريس، رافعين شعاراتٍ تدين حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزّة. لا شيء استثنائياً حتى الآن، خصوصاً حين نتذكّر أن مظاهرات مليونية ما انفكّت تسير في عواصم  العالم، رافعة الشعارات نفسها، ومندّدة بسياسات أنظمتها الموالية لإسرائيل.
خلال التجمّع ذاته، تنادى طلاب من على المنصّة لمنع دخول طالبة بعينها، عضو في اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا: "لا تدعوها تدخل، إنها صهيونية"! طالبة واحدة منعت من الحضور ولم تتعرّض إلى أي أذىً أو اعتداء، وما وقع أيّ اشتباك بين مؤيدين ومعارضين، وهو ما يحصل في عديدٍ من التجمعات والمظاهرات منذ انفجار الأوضاع في غزّة، غداة أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. حتى الآن، كان يجب أن لا يكون ذلك استثنائيا أو مدعاةً لسجال سياسي حادّ على مستوى رفيع.  
طبعا، الطالبة الصهيونية لم تنم على ضيم ورفعت شكواها إلى اتحاد الطلبة اليهود، فسارع الأخير إلى التأكيد بأن أعضاءً فيه "تم التهجم عليهم بوصفهم يهودا وصهاينة"! الطالبة أصبحت طلابا، والشكوى تحوّلت حتماً إلى اتهام بمعاداة السامية... هنا أيضاً، ما زلنا في إطار الـ"ديجا فو"، أي ما سبق لنا أن خبرناه وسمعناه آلاف المرّات حيث تخصصّت الجمعيات اليهودية على أنواعها وبرعت في العزف على آلة "الضحية" من خلال تحويل "الحبّة إلى قبّة" وإيقاظ عقدة ذنب "المحرقة" لدى الأوروبيين. ومع ذلك، ما زال الشريط الذي نُرجعه إلى الخلف لاستعادة ما جرى في ذلك النهار، لم يُظهر لنا سوى ما هو مألوفٌ ولا استثناء فيه.
في المساء، أعلنت إدارة المعهد أنها ستحيل المسألة إلى القسم التأديبي بهدف معاقبة هذه الأفعال المرفوضة، حيث "تم تجاوز خطوط حمراء عديدة". ونشرت بيانا صحافيا قالت فيه إنها رفعت القضية إلى "مدّعي عام الجمهورية بسبب الأفعال ذات الطبيعة المعادية للسامية، على أساس المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية"، مضيفة أن المعهد "المتأثر بالصراع في الشرق الأوسط وعواقبه الكارثية على السكان المدنيين، يلحظ ويأسف لتصلّب العلاقات بين جماعاته الطلابية وخلق مناخ ضار غير مقبول"! عند هذه النقطة، يبدأ المرء يبتلع ريقَه، عاقدا حاجبيه ومتسائلا: هل فعلا تحتاج القضية إلى مجلس تأديبي ومدّعٍ عام؟
إلا أن درجة الاستغراب لن تقف عند هذا الحدّ، بل ستبلغ ذراها حين سيفاجئنا رأسُ الهرم، رئيسُ جمهورية فرنسا إيمانويل ماكرون، بتعليقه على هذه الحادثة، فيندّد بالفم الملآن خلال انعقاد مجلس الوزراء، بتصريحات "لا توصَف ولا يمكن مطلقا قبولها"، تتبعه المتحدّثة باسم الحكومة التي ستضيف إن رئيس الدولة "كرّر بوضوح وحزم موقفه: نعم، الجامعات مستقلة، لكن هذا الحكم الذاتي لا يبرّر بأي شكل أدنى بداية للانفصالية" (عبارة الانفصالية تختصّ بتوصيف الجماعات الإسلامية المتطرّفة)، يليها رئيس الوزراء غبريال أتّال الذي سيقوم بزيارة خاطفة إلى المعهد قائلا إن "الحكومة ستصدر المادة 40 اليوم للمساهمة في التحقيق وفي تعبئة الأقسام لتحديد ما حدث"، تلحق به وزيرة التعليم التي ستقابل الطالبة وتنصحها برفع شكوى إلى المحكمة...  !!.  هذا وقد صرّحت الطالبة المعنية لإحدى الصحف الفرنسية "إنها شعرت بالصدمة لمنعها من الدخول، وما نامت طوال تلك الليلة!"، فيما قالت طالبة كانت حاضرة في التجمّع إن تلك مُنعت من الدخول "لأسباب أمنية، لأنها قامت في السابق بترهيب الطلاب المؤيدين للفلسطينيين"... "هي الوحيدة التي لم تستطع الدخول، بينما حضر أعضاء آخرون من اتحاد الطلبة من دون الكشف عن هوياتهم". 
جدير بالذكر أن معهد العلوم السياسية معروفٌ بإعداد نخبة النخب في البلاد وهو يحتل المرتبة الثالثة في تصنيف أفضل المدارس والأكاديميات في العلوم السياسية بعد جامعتي هارفارد وأكسفورد، وقد تخرّج منه خمسةٌ من رؤساء الجمهورية الفرنسية الخامسة. ... فأية نخبة تخرّج فرنسا اليوم بكمّ الأفواه وانحيازها غير المسبوق وغير المفهوم إلى الجلاد؟

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"