ترامب.. بين الإقصاء وإعادة التأهيل

ترامب.. بين الإقصاء وإعادة التأهيل

15 اغسطس 2017
+ الخط -
منذ تقديمه أوراق الترشح لانتخابات الرئاسة الأميركية، وحتى وصوله إلى البيت الأبيض، ثم ممارسته مهامه رئيساً للولايات المتحدة، على مدى الأشهر السبعة الماضية، كان دونالد ترامب مثيراً للقلاقل، حتى يخال لمراقب الحياة السياسية الأميركية أنه تبدٍّ لحالة شاذّةٍ تشوب تلك الحياة، وسيجري تصحيحها عاجلاً أم آجلاً. كما أن هنالك ما يوحي بإن المتحكّمين بصنع القرار في واشنطن دعوا ترامب حتى يذهب في غيِّه إلى أبعد الدرجات، وهو الذي بدا فالتاً من عقاله في مواقف وقرارات كثيرة، كي يسهل عليهم إقصاؤه بأقل قدر من الإضرار بصورة الديمقراطية الأميركية، إن تعذّر عليهم تقويم سلوكه.
ومن الإشارات البسيطة التي تدل على أنهم يريدون من ترامب أن يرتكب أكبر عددٍ من الأخطاء، أو حتى الحماقات، لجعل صورته تهتز أكثر في نظر مؤيديه، والشارع الأميركي عامة، هو السماح له باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، حتى في إصدار القرارات المصيرية، كما في تغريدته، على موقع تويتر التي أعلن فيها إقالته كبير موظفي البيت الأبيض، راينس بريباس، أواخر شهر يوليو/ تموز الماضي. ولا نعي مدى استخفافهم بترامب رئيساً، وتركه يُخرج ما في نفسه على شكل تغريداتٍ، إلا حين نتذكّر إنه كان ممنوعاً على الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، استخدام أيٍّ من مواقع التواصل الاجتماعي خلال فترة شغله موقع الرئاسة، قبل مجيء ترامب.
كما يثير الاستغراب سماحهم له باستخدام "تويتر" لكتابة تغريداتٍ تضر بالعلاقات مع الدول، وخصوصاً الحليفة منها، كما في تغريدته التي ظهر فيها أقرب إلى المقاول، أو محصِّل الأموال، منه إلى رئيسِ دولةٍ، حين غرّد بعد عودته من زيارة السعودية، في مايو/ أيار الماضي، يقول: "إعادة مئات مليارات الدولارات إلى الولايات المتحدة من الشرق الأوسط،
والذي سيعني: وظائف، وظائف، وظائف"، وهي إشارة إلى العقود والصفقات التي وقَّعها مع السعودية، وقُدِّرت قيمتها بحوالى 460 مليار دولار. وتضاف هذه التغريدة إلى تغريداتٍ أطلقها خلال حملته الانتخابية، وكان يردّد فيها: "على السعودية أن تدفع". وتلك التي قال فيها ادفعوا كي نحميكم من الفناء التام، علاوةً على التغريدة التي وصف فيها السعودية بالبقرة الحلوب التي تدر ذهباً، وأن عليهم أن يدفعوا ثلاثة أرباع ثروتهم للولايات المتحدة، بدلاً عن الحماية التي توفرها لهم. وهي تغريداتٌ بمجملها كفيلة بقطع العلاقات بين الدولتين، لو أن السعوديين يأبهون لهذا الأمر.
في هذه الأيام، يبدو أن اللحظة المنتظرة، والتي تراكمت عواملُ عدّة من أجل إنضاجها، قد حانت، إذ أخذت التحقيقات حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية لصالح ترامب منحىً جدياً مع تشكيل المستشار الخاص في مكتب التحقيقات الفيدرالية، روبرت مولر، أخيراً، هيئة محلفين كبرى، بإمكانها توجيه اتهاماتٍ في إطار تحقيقاتها في الموضوع. وأصبح لافتاً تكرُّس تسمية "التحقيقات الروسية"، عند الحديث عن هذا الملف، الذي يبدو أنه قد وُضِعَ على سكةٍ ثابتةٍ، لن ينزل عنها إلا وقد وصل إلى المحطة التي تُرضي معارضي ترامب وتغضبه. فما كان، حتى الأمس القريب، تحقيقاتٍ متناثرةً مع عددٍ من أفراد عائلته ومقرّبين منه وأعضاء طاقمه الانتخابي، سيخضع لجدولِ استدعاءاتٍ محدّدٍ بالزمن والأشخاص، وربما يُستدعى هو نفسه للمثول أمام هذه الهيئة التي قد تتوصل إلى قرار اتهامي بحقه.
ولكن، هل يمكن حقاً الوصول إلى نقطة اللاعودة وإقصاء ترامب عن حكم البيت الأبيض؟ تشكيل هيئة المحلفين إشارة إلى جدية أكثر في التعاطي مع هذا الموضوع. إضافة إلى ذلك، هنالك من يتحدث عن اضطلاع الكونغرس بالمهمة، ولجوئه، في مراحل لاحقة، إلى التصويت على توجيه اتهامٍ رسمي له بعد استيفاء التحقيقات، واستكمال هذا الاتهام بالتصويت على إقالته قبل انتهاء مدة رئاسته، وهو ما يمكن أن يدفعه إلى تقديم استقالته، قبل تلقِّيه لوائح الاتهام، منعاً من تسجيل هذه السابقة في تاريخ الرئاسة الأميركية.
وبالموازاة مع الحديث عن إقالة ترامب، أو دفعه إلى تقديم استقالته، هنالك اتجاه في الإدارة الأميركية يسعى إلى تقويم أدائه، وتقييد حركته وترتيب الفوضى التي تسبب بها داخل البيت الأميركي وخارجه. ولكن، هل يمكن لهذا الرئيس الخضوع لهذه الترتيبات، وهو الذي هاجم
مسار التحقيق، في كلمة ألقاها أمام مناصريه في فرجينيا قبل أيام، وقال فيها: "التحقيق قصة كاذبة تحطُّ من قَدَرِنا جميعاً ومن قدر الدولة والدستور الخاص بنا". لابد أن قصة التحقيق وتراجع شعبيته بنسبة كبيرة كفيلان بإجباره على الخضوع لعملية تأهيلٍ يفرضها عليه المتحكمون بمفاصل الإدارة في البلاد.
وربما يكون سجل ترامب الخارجي هو ما يمكن أن يدفع المعنيين إلى غضِّ النَّظر عن هفواته، وبالتالي تفويت فرصة اتهامه، خصوصاً أن سلوكه لم يضرَّ بمصالح الولايات المتحدة، وإن أضرَّ بصورتها، فتغريداته عن ضرورة إجبار السعودية على "الدفع"، والكفيلة بأن يسفر عنها قطع العلاقات بين البلدين لم تمنع الأخيرة من عقد الصفقات، غير المسبوقة، معه. كما أنه أظهر نيّة بعدم التساهل مع الصين، وفرضَ عقوباتٍ كبيرةٍ على روسيا، وهي المتهمة بالتدخل بالانتخابات لصالحه، وأوصلته إلى البيت الأبيض، إضافة إلى أنه رمى بثقله في الملف السوري، وأرسل قواتاً إلى سورية، وأقام فيها قواعد، على عكس سلفه، أوباما، الذي أهمل الملف السوري.
يمكن لهذه الخَضَّة في البيت الأميركي أن تستمر، وتلهي متابعي الأخبار بها، كما ويمكن لها أن تتوقف. لكن ما ليس متوقفاً وما لن يتوقف أبداً، هو استمرار الجميع في أميركا برعاية مصالح بلادهم الاقتصادية. ومن هنا، تأتي هفوات ترامب، وقضية تلقيه الدعم من روسيا لتصبح تفصيلاً صغيراً يُعمى عنه بصر الجميع، كونه يأتي في سياق تفصيلٍ كبيرٍ، هو المحافظة على مصالح الولايات المتحدة في الخارج، مهما بلغ وطيس المعارك في الداخل.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.