هذا المثقف

هذا المثقف

07 يونيو 2017

خوان غويتيسولو.. رفض مهادنة الدكتاتوريات (Getty)

+ الخط -
لا يُفتح كتاب المثقفين الملتزمين في هذا العصر من دون أن يُذكر اسم الأديب الإسباني، خوان غويتيسولو، ابن مدينة مراكش الذي عاش فيها وعاشت في داخله، ولم يهدأ له بال حتى أدخل ساحتها الساحرة، جامع الفنا، إلى قائمة التراث العالمي المحفوظ في اليونيسكو.
أسلم غويتيسولو الروح، الأسبوع الماضي، في بيته العتيق في المدينة القديمة بمراكش. مات جسديا، لكنه ثقافيا وفكريا سيظل حيا في ما خلّفه من سيرة وكتب ومواقف ستُبقي اسمه محفورا في ذاكرة أجيال وأجيال.
ترك حفيد سرفانتيس عشرات الكتب والمؤلفات، لكنه ترك ما هو أهم، ترك سيرة مثقفٍ لم يهادن الديكتاتورية، ولم يرفع الراية البيضاء أمام العنصرية، ولم يتعايش مع المركزية الغربية، ولم يهضم القومية المتعصبة التي تزرع الكراهية والحرب بين بني البشر.. مسار حياة ابن برشلونة رُسم يوم قتل الديكتاتور فرانكو والدته في قصف عشوائي بالطائرات إبّان الحرب الأهلية (1936- 1939). عندها قرر الصبي أن لا حياة له تحت سقف الحكم الاستبدادي، ولا مهنة له خارج الكتابة، ولا عقيدة له خارج ملاحقة الدم وإعلاء صوته، ألا يقول المثل "صوت الدم دائما أقوى". ...
ولأن العالم بيت من لا بيت له، رحل الشاب خوان إلى باريس، وهو ابن العشرين، وتحوّل من لاجئ ثقافي إلى لاجئ سياسي، حيث لم يوفر نقدا لنظام فرانكو وللكنيسة الكاثوليكية التي تحالفت مع الديكتاتور. ولهذا، تألم خوان غويتيسولو كثيرا عندما اختارته ليبيا ليحمل جائزة معمر القذافي (مليون دولار) فرفض تسلّمها، وكتب رسالة معبرة جدا يشرح فيها دواعيه السياسية، وليس الثقافية أو الأدبية، وأنه لكي يبقى منسجما مع ذاته وتاريخه ومواقفه، فإنه لا يمكن أن يقبل جائزةً من نظام ديكتاتوري، وهو الذي أمضى حياته يناهض الديكتاتورية، ويلاحقها بالقلم والكلمة والرأي.. نزلت رسالة خوان كالصاعقة على ديكتاتور باب العزيزية، معمر القذافي، فما كان من اللجنة التي تمنح الجائزة إلا أن حوّلتها إلى مثقف مصري اسمه جابر عصفور، ففرح بها هذا مثلما يفرح الصبي بلعبةٍ تُهدى له، ولم ير فيها ما يعيب سيرته وموقفه، فكان هو الآخر منسجما مع ذاته وتاريخه.
يقول غويتيسولو عن علاقته كمثقف بالمال: "أنا لا أكتب لكسب قوتي، بل أكسب قوتي لأستمر في الكتابة حرا بلا قيود. أنا كاتب الأقليات، ولم أطمح يوما لأكون كاتبا مشهورا أو كثير القرّاء. أنا أبحث عن قارئ يعيد قراءة ما أكتب، هذا يكفيني، لم أرضخ يوما لديكتاتورية الجمهور، ولا لديكتاتورية دور النشر".
أينما كان الدم يراق، كان غويتيسولو يشدّ الرحال ليُسمع صوت الضحايا إلى العالم الذي لم يعد يسمع إلا نفسه ومصالحه. سافر إلى سراييفو التي كتب منها "دفاتر سراييفو وحصار الحصار"، وإلى فلسطين، حيث ساند قضيتها، وهو يعرف نفوذ اليهود في الأوساط الثقافية والإعلامية في أوروبا وأميركا. سافر إلى العراق، حيث وقف ضد حصار شعب وتدمير حضارة، وهو يعرف جبروت الآلة الأميركية.
أحب هذا الإسباني الثقافة العربية، ودافع عنها أكثر من أبناءَ لها، وناهض كل الكليشيهات التي وجدها في طريقه عن الإسلام والثقافة العربية والمهاجر المسلم، ودعا إلى التعايش بين كل الحضارات، على قاعدة الكفر بالقوميات المتعصبة التي رأى أنها الشر الأكبر الذي يبعد البشر عن بعضهم بعضا، ويزرع الفرقة بينهم.
ليس كل من يكتب يستحق حمل لقب مثقف، وليس كل من يظهر في الإعلام حاملا صفة دكتور أو باحث أو أستاذ أو خبير أو إعلامي يستحق لقب مثقف، وليس كل من جلس عند باب السلطان يمدحه أو يهجو خصومه بمثقف. المثقف علم وموقف، خبرة ورأي في الشأن العام، واستعداد للتضحية من أجل قول الحقيقة للسلطة، أيا كانت هذه السلطة، سياسيةً أو اجتماعية أو دينية. وبهذا وحده يكون المثقف مثقفا. هذا هو درس من يُدفن اليوم في أرض المغرب، علّ ترابها يُخرج من رفاته من يشبهه ثقافةً وروحاً نقديةً وشجاعةً في إبداء الرأي والانحياز إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.