قل "حصار" ولا تقل "مقاطعة"

قل "حصار" ولا تقل "مقاطعة"

21 يونيو 2017
+ الخط -
من مآثر العلامة اللغوي الراحل مصطفى جواد أنه ترك لنا معجما فريدا في بابه من ثلاثة أجزاء، ضمّنه مئاتٍ من الكلمات العربية الصحيحة الفصيحة، ومرادفاتها من الكلمات الغلط الشائعة، اعتمادا على النصوص والشواهد من نثرٍ أو شعر، وقد أعطاه عنوانا لافتا هو "قل.. ولا تقل".
مناسبة هذا التذكير أقوال وتصريحات لمحدثين في السياسة، وقد اقتفى أثرَهم، من باب لزوم الرزق، محللون وكتاب وصحافيون، يشار إلى بعضهم بالبنان (!)، يريدون أن يوهمونا أن الوصف اللغوي للإجراءات التي اتخذتها دول المحور الثلاثي الخليجي ضد قطر يجيء من الفعل "قاطع، يقاطع"، بمعنى أن أحدا قد أعرض عنك، أو ترك التعامل معك، أو ابتعد قليلا أو كثيرا، أو كما نقول، نحن العراقيين، "زعل عليك". وإذا كان شقيقا أو صديقا لك، ففي غالب الحال سوف يكون "زعله" خفيفا، كأن يكتفي بأن لا يبادرك بالسلام إلى حين، أو يتجاهل سلامك له إذا ما بادرته بالتحية، أو قد يهم بالانصراف إذا ما قدّر لكما أن تحضرا معا مجلسا ما، ولسوف يقول لك حكيمٌ مجرّبٌ إن حبل "الزعل" قصير، وإنكما ستعودان يوما قادما، كما كنتما، "سمنا وعسلا".
وإذا ما تأملت قليلا فلسوف تكتشف أن الأمر ليس كذلك، وأن وصفه الأكثر صحةً يجيء من الفعل "حاصر يحاصر" الذي ينطبق على حال "التضييق اقتصاديا عليك بمختلف الوسائل الممكنة"، أو "منع وصول المؤن والذخائر إلى بلدك"، أو "قطع وسائل الحياة والاتصالات عن أهلك لدفعهم إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء"، وحالٌ كهذا قد يشكّل مقدماتٍ لحرب، أو هو الحرب ذاتها. هنا، نعود إلى حكاية معجم مصطفى جواد، لنستعير عنوانه "قل.. ولا تقل"، ونقول لمن وصف تلك الإجراءات بأنها "مقاطعة"، قل "حصار"، ولا تقل "مقاطعة". ولنا أسبابنا التي تفصح عنها شهاداتٌ موثقةٌ، حملها تقرير مثير أصدرته منظمة دولية مستقلة، تعنى بقضايا حقوق الإنسان، وتطمح إلى تشكيل رؤية تضمن عدم انتهاك تلك الحقوق أو النيل منها.
يقول المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، ومقره جنيف، إن أكثر من ستة آلاف أسرة خليجية تعرّضت لتشتيت الشمل، بفعل الحصار جرّاء حمل أحد الشريكين الجنسية القطرية، وحمل الآخر جنسية إحدى دول المحور الثلاثي، وإن مئات الطلبة من جنسيات الدول الثلاث الذين يدرسون في معاهد قطر وجامعاتها أجبروا بقرارٍ من دولهم على العودة الفورية وقطع دراستهم، فيما تعرّض ما يقرب من ألفي موظف سعودي أو إماراتي أو بحريني بالجنسية يعملون في القطاعين الحكومي والخاص في قطر إلى ترك أعمالهم، والعودة بطلب من حكوماتهم. وبالطبع فإن منهم من تقيم أسرهم في قطر، أو يدرس أبناؤهم فيها.
يجد المرصد تلك الممارسات ضاربةً في الصميم الحقوق الطبيعية لهذه الفئات في مجالات العمل والتعليم والملكية، ولا ينسى أن يذكّر بانتهاك الحق في حرية التعبير واحترام الرأي الآخر، من خلال اعتبار التعاطف مع دولة قطر بأيٍّ من وسائل التواصل الاجتماعي جريمةً يعاقب عليها القانون بالسجن الذي قد يصل إلى 15 عاما، وبغرامة قد تصل إلى مائة ألف دولار.
لعل أخطر ما يمكن أن تُحدثه إجراءاتٌ قاسية كهذه في إطار الأسرة الخليجية الواحدة أن تصبح العلاقة بين الأخ وأخيه خصومةً دائمة، خصوصا عندما يُمعن الأخ الأكبر في إلباس شقيقه لباس الفتنة، محاولا شيطنته إلى درجة أن تصبح العودة إلى حضن الأسرة الدافئ صعبةً ومرة. وأخطر ما في الحكاية أن الأخ الأكبر يحاول فرض وصايته على أشقائه، ويسعى إلى البطش بهم، إذا ما حاولوا الخروج على وصايته، أو لم يذعنوا لشروطه، ما هي شروطه؟ لا تعرف، لأن ما يطرح في أجهزة الإعلام ليس هو كل الحقيقة.
هنا يبدو جسد "مجلس التعاون" الذي كانوا يقولون أنه لا يمرض، يبدو هشّا، والعلاقة بين مكوناته لا ترضي حتى من ليس له فيه ناقة ولا جمل، لكن الأمل في الوصول إلى تسويةٍ معقولةٍ ومقبولةٍ من كل الأطراف لم يتبدّد بعد.
يبقى أن نذكر المحللين والكتاب والصحافيين الذين اقتفوا أثر السياسيين لزوم الرزق، فوصفوا ما يجري بأنه "مقاطعة" بأنه "كي تكون صادقا في وصفك قل حصار.. ولا تقل مقاطعة".
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"