دارفور... واتهام السودان مصر

دارفور.. واتهام السودان مصر

30 مايو 2017
+ الخط -
يحار المرء في إدراك طبيعة الرسالة التي أراد الرئيس السوداني، عمر البشير، إيصالها من الهجوم الصريح الذي شنه، أخيرا، على مصر، واتهمها بإمداد الحركات المناهضة للحكومة في إقليم دارفور بالسلاح. عرضت الحكومة السودانية مركباتٍ وعتاداً عسكرياً استولت عليه في المعارك في دارفور، أخيرا، وقدمته دليلا على مساعدة الحكومة المصرية الحركات المسلحة الدارفورية. ولعلها المرة الأولى التي توجه فيها الخرطوم مثل هذه المزاعم غير المسبوقة للجارة مصر، إذ ظلت القاهرة تاريخيا تقدّم مساندتها المعلنة، أو غير المعلنة، للحكومات السودانية، في حروب الأخيرة في جنوب السودان أو حتى في إقليم دارفور.
ظهر الرئيس البشير مصمما على أن يقيم الدليل الدامغ على التورّط المصري المسلح في الشأن الدارفوري، ويضيف إلى التوتر القائم على مثلث حلايب، لكن هذا الدليل بدا محاطا بقدر من عدم الكياسة، إذ لا تتسق نوعية السلاح من مدرعات ثقيلة وحرب العصابات التي تخوضها الحركات الدارفورية المسلحة.
كان قائد الحركة الشعبية، الراحل جون قرنق، يضجر كثيرا من السؤال المتكرّر الذي ظل يوجه إليه عن مصدر تمويل حركته بالمال والسلاح، وجاء ردّه وببساطة شديدة على سؤال صحافي: لا تدع خيالك الصحافي يذهب بعيدا، فقد أهدانا الزعيم الليبي، معمر القذافي، أسلحة وعتادا يكفي لخوض عدة حروب، ومنحنا أسلحة ثقيلة تتعارض مع نشاطنا، ونحن حركة مسلحة، ولا نحتاج دبابات وأسلحة ثقيلة، كيف نوصلها إلى مناطقنا النائية، وأين نذهب بها وكيف نتحرّك بها.. وبطبيعة الحال، توجهنا إلى سوق السلاح العالمي، وتخلصنا من ذلك العتاد.

ولهذا، من المفهوم والمبرّر اتهام مصر بالتدخل عبر احتضان قادة بعض هذه المجموعات، وتقديم الدعم السياسي والمعنوي لهم، وتسهيل أمر تحركاتهم. واللافت أن السفير السوداني لدى القاهرة، عبد المحمود عبد الحليم، سعى إلى التقليل من شأن الاتهامات التي صدرت من الخرطوم تجاه مصر. ونقلت عنه شبكة إرم نيوز قوله إن التحقّق جارٍ من هوية السلاح، ثم عاد، وفقا للشبكة، إلى تأكيد "أن لدى بلاده معلومات بشأن ما صرح به البشير". ودعا إلى ضرورة التنسيق مع السلطات المصرية بشأن أمر السلاح. ويخفف السفير من وقع اتهامات الرئيس البشير بقوله "الأخبار التي انتشرت في هذا الشأن لا تؤثر على العلاقة بين السودان ومصر". ولا تحمل هذه المفارقة الظاهرة بين حديثي الرئيس والسفير جديدا بشأن مزاوجة متكرّرة فيما يصدر عن المسؤولين في السودان من تصريحات وأقوال.
وفي واقع الأمر، ظل التدخل الأجنبي في مجريات الأحداث في دارفور قائما، وتعدّد وتنوع بتطور مراحل القتال هناك. وتشارك فيه، بدرجات وأشكال متفاوتة، معظم دول الجوار من مصر وليبيا القذافي وتشاد وإثيوبيا وإريتريا، ودول كبرى، شأن أميركا، واحتضنت فرنسا قيادات دارفورية، وقدمت لها الدعم الصريح، بل دفعت أميركا في مفاوضات الدوحة قبل سنوات بمجموعة جلبت من ليبيا بمعية المبعوث الأميركي لدارفور الذي حملت المجموعة اسمه "مجموعة غرايشن"، أو مجموعة سرت.
على أن السؤال المهم اليوم، وقبل الاتهام لمصر: كيف اندلعت المعارك بين الحكومة السودانية والمجموعات المقاتلة في دارفور، وبهذه الصورة المقلقة، وبدرجة جعلت الحكومة تنكر على الحركات قوتها الذاتية، لتتهم طرفا خارجيا بدعمها؟ الأكيد أن المعارك، أخيرا، في ولايتي شمال شرق دارفور بضراوتها نسفت أوهام الحكومة السودانية بأن السلام قد عمّ إقليم دارفور، وأن الحركات المسلحة أصبحت من الماضي. ليس هذا فحسب، فقد هزّ القتال العنيف في جبل مرة مع حركة عبد الواحد نور، ثم أخيرا مع حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وبقوة أحد أركان شروط رفع الحصار الأميركي على السودان. تضاف إلى هذا عدة ظواهر مقلقة للحكومة والقوى المعارضة لها على حد سواء، إذ شهدت دارفور، أخيرا، ازدهارا في سوق السلاح بمختلف أنواعه. وفي الوقت نفسه، انتشرت المجموعات المسلحة التي تتهم القوى الدارفورية المسلحة والمدنية الحكومة باحتضانها ودعمها، وغض الطرف عمّا تقوم به من جرائم و ترويع واختطاف للمواطنين. وبدلا عن سياسة جمع السلاح وتجفيف مصادره التي وجدت ترحيبا في الإقليم في وقت سابق، يشهد الوضع تدهورا وحروبا قبلية مسلحة، وبشكل غير مسبوق. وقد قال زعيم حزب الأمة المعارض، الصادق المهدي، أخيرا، إن انتشار السلاح في إقليم دارفور قد بلغ مستويات مخيفة، وقدرها بأكثر من ستة ملايين قطعة سلاح، بما فيها الأسلحة الثقيلة. وهذا ما يعزّز القول إن الحكومة تواجه الفشل في حملة جمع السلاح من يد الأفراد والمليشيات والقبائل في الإقليم.
تعيد المعارك الجديدة إلى الواجهة مقولة أساسية إن الوضع في دارفور يحتاج معالجةً أكثر شموليةً، ضمن خريطة الوضع السياسي في السودان بكامله، بمعنى أن هذه القضية ينبغي النظر إليها كأحد تجليات الأزمة العامة للحكم في السودان، فما يجري في الإقليم لا يختلف بحال عما يجري في مناطق أخرى في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ومعها الوضع الهش في شرق السودان وحتى الشمال الذي تتصاعد فيه قضية بناء السدود، والمواجهة
المستمرة سلميا على الأقل حتى الآن بين المواطنين والدولة.
ولهذا، لا يفيد التصعيد العسكري، ورمي اللوم على مصر بتدخل مزعوم أو غيره، وإنما ينبغي الإسراع في إيجاد حلول عاجلة لتردي الوضع في دارفور. وإدراك أن قضية الإقليم قضية سياسية وعادلة، ينبغي على الحكومة إعادة النظر في طريقة التعاطي معها، وأن تصغي لمطالب أهل الإقليم. وينبغي كذلك إشراك القوى الدارفورية والسياسية الأخرى مدخلاً مباشراً للحل الجذري. وعلى الحكومة إدراك أن التعويل على الحل العسكري الذي جرّبته طوال السنوات الماضية يزيد الأزمة تعقيدا، ويطيل من أمد الحرب، وهو ما أثبتت المعارك فشله. وأخيرا، وضعت وثيقة الدوحة لحل أزمة دارفور قاعدةً قويةً، ينبغي البناء عليها وفق رؤية عملية عادلة وجدية أكبر من الحكومة. وخطوة الحل الرئيسية أن تتخلى الحكومة عن أوهام القوة العسكرية، لأن قضية دارفور قضية سياسية معقدة، لن يقدر على حلها طرفٌ واحدٌ، وإنما بتضافر كل جهود السلام، وفوق ذلك توفر قناعة حكومية أصيلة بضرورة تجريب مقاربة أخرى، تنهى الصراع وبتوافق المكونات كافة.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.