تحوُّلات النظام السياسي الفرنسي

تحوُّلات النظام السياسي الفرنسي

18 مايو 2017
+ الخط -
تُقْرَأُ نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي أَعْلَنَت في 7 مايو/ أيار الحالي، فَوْزَ إيمانويل ماكرون (39 عاما) مرشح حركة إلى الأمام، من زوايا عديدة. وتتوقف هذه المقالة أمام بعض جوانبها المرتبطة بتحوُّلات النظام السياسي الفرنسي، حيث من المنتظر أن تحصل خلخلةٌ ما في بنية النظام المذكور.
في البداية، فوز ماكرون بالرئاسيات الفرنسية ظاهرةٌ غير مسبوقة في النظام السياسي الفرنسي، المؤسس على قطبية ثنائية تجمع بين اليمين واليسار، وهي قطبية ترسَّخت منذ ما يقرب من ستة عقود، أي منذ بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة سنة 1958. إلاَّ أن فوز الرئيس الجديد، لم يُعْلِن فقط بداية تجاوزها، بل وضع أيضاً اليمين الجمهوري في مأزق، وأعلن نهاية اليسار الاشتراكي.
أبرز ملاحظون كثيرون أن نتائج هذه الانتخابات تُعَدُّ بمثابة علامة دالة على إخفاق النظام السياسي القائم الذي ساهم في استفحال البطالة وانعدام الشغل، كما ساهم في انعدام الأمن داخل المجتمع الفرنسي، غير أن رَبْط مآزق النظام السياسي في فرنسا بما ذكرنا قد لا يكون كافياً لتفسير ما جرى في الانتخابات أخيرا، لكنه يساهم في إبراز وتوضيح نوعيات التحوُّل التي تعرفها بنية النظام.
أعلن ماكرون ترشيحه للرئاسة خارج طرفي القطبية، على الرغم من أنه كان يَشْغَلُ منصب مستشار ووزير في حكومة الرئيس التي انتهت ولايته. لقد اختار الترشيح للرئاسة من خارج النظام. وقد ترتَّب عن الانتخابات الأولية المعمول بها في الرئاسيات الفرنسية اندحار مُرَشَّحَيْ اليمينِ واليسار، ليصبح التنافس في الطور النهائي للرئاسيات بين اليمين المتطرّف ومرشّح حركة إلى الأمام الذي وضع نفسه وحركته كما أشرنا، خارج النظام السياسي الفرنسي.
اعتبر ماكرون، في نظر فاعلين كثيرين في المجتمع السياسي، بمثابة المخرج المناسب لمآزق 
(وتحولات) النظام السياسي الذي لم يسعفه التداول المتواصل على السلطة من رفع، ولا تجاوز المآزق المستمرة في النظام، فاتجه إلى تركيبِ تحالفٍ سياسي، يجمع فاعلين من فضاءاتٍ عديدةٍ مرتبطةٍ بآليات عمل النظام القائم، ينتمي بعضها إلى القطاعات الاقتصادية والسياسية، وينتمي آخرون إلى قطاع الإعلام والمالية، وهو يستوعب شباباً كثيرين، كما يجمع كثيرين من الكوادر الرافضة آليات العمل الحزبي التقليدي، بعد أن عاينت صراع العناصر والقيادات داخله.
لكن، كيف حصل ذلك؟ إذا كنا نعرف أن مرشحة اليمين المتطرِّف، مارين لوبان، حرصت، طوال حملتها الانتخابية، على استخدام خطاب التخويف من المهاجرين، مُعْتَبِرَةً أنهم سبب كل الأزمات المرتبطة بالاقتصاد والأمن داخل المجتمع الفرنسي، ولم تتردّد أيضاً، في ربط مآزق الاقتصاد الفرنسي بالاتحاد الأوروبي وسياساته، فإن ماكرون يعتبر أن الانفتاح والتعدّد، والسوق الحرة والاتحاد الأوروبي، بمثابة بدائل لخطابات الهوية والانغلاق والحدود الوطنية. ويمكن أن يُضاف إلى ذلك الدور الكبير الذي لعبه الإعلام في التمهيد للفوز الحاصل، حيث أصبحت الكتلة الناخبة، بفضل أدواره المكثفة، أمام ثنائية التخويف والأمل، الانغلاق والانفتاح.
لابد من الانتباه إلى أن ظاهرة ماكرون تُعَدُّ محصلةً لكيفيةٍ من كيفيات نجاح مؤسسات المال والإعلام التي يعرف المشرفون عليها بنية النظام السياسي وطرق عمله، وقد عملوا على ترتيب (وتدبير) المخرج المناسب للانسداد الحاصل في بنية النظام السياسي. كما رسموا الملامح والمعالم الكبرى للرئيس الجديد، وهي معالمُ لا تتردّد في تَكرار أنها لا تمثل، لا اليسار ولا اليمين، قدر ما ترهن مصيرها بتطلعات الفرنسيين الذين سئموا من تشرذم اليسار وضيق أفقه في النظر والعمل، كما سئموا من اليمين ولغاته المحافظة.
تصوّر الذين يقفون وراء مشروع حركة إلى الأمام أن القطبية الثنائية أنجبت التطرّف، أنها تقف وراء اليمين العنصري واليسار الرديكالي، وهما معاً يعيشان ويتطوّران على هامش
الأخطاء المتواصلة لليمين الجمهوري واليسار الاشتراكي. ومن هنا، تخلى الحامل لمشروع الأمل، طوال حملته الانتخابية، عن اللغة المعهودة في الرئاسيات، واكتفى برسم المعالم الكبرى لخياراته، منطلقاً من رَفْضِه الفكر المحافظ في السياسة، وتَمَسُّكِه بالاقتصاد المفتوح الْمُعْتَمِد على المبادئ الليبرالية، مع انفتاحٍ جزئي على بعض القيم الاجتماعية، ومُنَافحةٍ مُعْلَنَة لقيم العولمة ومبادئ الاتحاد الأوروبي.
يؤمن ماكرون بالقطيعة مع بنيات النظام السياسي القائمة، ويؤمن، في الوقت نفسه، بضرورة الاستفادة مرحلياً من مكاسب النظام، بعد تحويلها، في ضوء التصوُّرات والخيارات والقيم التي تحملها حركته اليوم. ونحن نتصوَّر أن السر في نجاحه يعود، من جهةٍ، إلى عدم قدرة النظام على بناء السِّلْم والأمْن الاجتماعيين، كما يعود، من جهة ثانية، إلى كفاءة المجموعة المؤسِّسَة في بناء رؤية سياسية، ترتكز، كما قلنا، على الخيارين، الليبرالي والأوروبي، والإعداد لتركيب نظام سياسي جديد، يحمل فيه مشروع إلى الأمام رَسْمَ الجمهورية التقدّمية، حيث يُظهر صاحب المشروع حرصه على الجمع بين الجمهوريين واليساريين.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".