فوبيا المنخفضات

فوبيا المنخفضات

04 ابريل 2017
+ الخط -
لا أتحدّث عن قمة البحر الميت، بل عن شأن علمي محض، يتصل بنوع من الأمراض غير المعروفة حتى الآن، فاستنادًا إلى خبرتي العلمية المتواضعة، في وسعي الزعم إنه لا يوجد في علم الأمراض النفسية ما يمكن تسميتها "فوبيا المنخفضات"، أي الخوف من الأماكن المنخفضة، على غرار نظيرتها المعروفة "فوبيا المرتفعات"، غير أنني أعتقد، جازمًا، أن مثل هذه "الفوبيا" حقيقةٌ واقعة، وإن لم يلتقطها العلماء بعد.
ويمكن أن أختصر هذا المرض بعبارة واحدة، قوامها أن كل من تمكّن من اعتلاء قمةٍ في حياته لا بد أن يكون مصابًا بداء "فوبيا المنخفضات"، ذلك أن أشد ما يرعبه هو خسارة "القمة" التي بلغها يومًا.
أيضًا، في وسعي الزعم أن "فوبيا المنخفضات" لا تقتصر على القيعان الجغرافية فحسب، بل تشمل المنخفضات السياسية، كذلك، فهل في وسع أحدٍ أن يتخيل مبلغ الرعب الذي تعيشه إمبراطوريةٌ مثل الولايات المتحدة، جرّاء انحسار نفوذها العالمي، وخسارة زعامة القطب الأوحد؟.. وهل يمكن أن نتخيل اليابان تتدحرج من علياء القمة التكنولوجية التي بلغتها، إلى حضيض اليأس الذي كانت تعيشه إبّان الحرب العالمية الثانية؟ والأمر نفسه ينسحب على سائر الدول الأوروبية، عقب حروبها العالمية، وثوراتها التحرّرية، ففرنسا، قد تنتحر حضاريًّا، لو عادت إلى زمن بسكويت ماري أنطوانيت.
أما نحن العرب، فمن حسن طالعنا أننا لم نصب بـ"فوبيا المنخفضات" حتى اليوم، وتحديدًا السياسية والحضارية منها، ولا حساسية لدينا من القيعان على الإطلاق، منسجمين مع الشطر الثاني من بيت شعر شاعرنا المرحوم أبو القاسم الشابي:
ومن يتهيب صعود الجبال/ يعش أبد الدهر بين الحفر
ولعل من المفارقات المؤسية في حياتنا العربية أن "القمم" ذاتها هي ما يدحرجنا إلى القيعان دومًا، عوضًا عن أن ترتفع بنا إلى شواهق الأمل، بدليل أن كل "قمة" منتظرة تهبط بنا درجة إلى الأسفل، منذ قمة "لاءات الخرطوم"، فمن "لا صلح.. لا استسلام.. لا مفاوضات مع إسرائيل"، إلى تسوّل الصلح والمفاوضات، عبر شعارات "ضرورة تحريك مفاوضات السلام بين الأشقاء الفلسطينيين والإسرائيليين"، والمقصود بالطبع تحريك إسرائيل المغناج التي حصدت الأرض والاستسلام معًا، أما الصلح العربي معها فظاهر وباطن، بأعلام سفارات خفاقة، أو بمسؤولين من الطرفين يلتقون تحت الطاولات يوميا.
بات المواطن العربي مصابًا، من دون مواربة، بفوبيا القمم العربية، لا خشية الصعود، بل مخافة مزيدٍ من الهبوط؛ لأن "قممنا" دون سائر قمم الأرض جميعًا هي في حقيقتها قيعان، حتى لو تسمّت بأسماء لا صلة لها بها، وتبلغ المفارقة "قمتها"، حين يغدو دعاء هذا المواطن: "اللهم لا تجمع شملهم"، لأنه يعلم أن اجتماع شمل القادة العرب، إنما يعني مزيداً من مصائب الاستبداد والإذلال التي تتنزّل على نافوخه، ومزيدًا من التفريط بما كان يعتقد أنه ثوابت لا يمكن المساس بها، على غرار إحدى "القمم" التي تجرأت، ذات يوم، على تهشيم الأمن القومي العربي، حين أجازت الاستعانة بالأجنبي.
في المقابل، ومن باب الإنصاف، لا بد أن أعترف بأن ثمّة "فوبيا منخفضات" فعلية، تستوطن نفوس القادة العرب، وأعني بها "فوبيا الهبوط عن الكرسيّ"، وهي فوبيا مزمنة وخطرة للغاية، تقضّ مضاجعهم، وتستفزّ كل خلايا القمع والمؤامرات في أدمغتهم، خصوصًا، لدى أدنى تهديد لهذه الكراسي، على غرار الفوبيا التي ألحقتها بهم ثورات الربيع العربي، ولا أستبعد أن تكون "القمم" التي تلت ذلك الربيع الواعد محاولاتٍ محمومةً لإجهاضه، بدليل أن أحد القادة تحدث، في القمة الأخيرة/ مستهزئًا من هذا "الربيع"، ولربما كانت عبارته تلك مربط فرس هذه القمة كلها، بعيدًا عن كل الشعارات الرنانة التي تضمنها البيان الختامي.
ومن باب الإنصاف، كذلك، يُحسب للقمم العربية أنها دحضت نظرية العلماء التي كانت تؤكد، إلى عهد قريب، بأن البحر الميت هو أخفض بقاع الأرض.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.