دمٌ يمحو دماً

دمٌ يمحو دماً

17 ابريل 2017

سورية دما.. لوحة تمام عزام في دبي (29/12/2012/فرانس برس)

+ الخط -
تقدّم الكارثة السورية دروساً غير مسبوقة في الهمجية. فقط قاع الجحيم يمكن أن يحفل بمثل هؤلاء الذين يتفنّنون في الموت، ويجعلونه موضع سبق وتفرّد. عشت حروباً مع العدو المنسي، وبين الأشقاء الأشقياء، بيد أني لا أتذكّر هذا الشغف بالقتل، هذا الموت، واسع النطاق، الأكثر سهولةً من شربة ماء. حتى في شربة ماء يمكن أن نغصَّ، بينما لا يغصُّ هؤلاء، أياً كانت وجوههم، أقنعتهم، الجهات التي جاؤوا منها، بدماء مائة قتيل، مائتين، ألف. للدم المسفوك غدراً ثقل خاص، ولون أكثر دكنةً، ولكن هذا لا يفسد شهيّتهم.
فكَّرنا في أن ليس هناك ما يفاجئنا بعد الكيماوي. كانت ذروة القتل الهمجي هي البراميل المتساقطة بلا بوصلةٍ على الرؤوس. لكن الكيماوي بزَّ البراميل وتقدَّم، شوطاً، على طريق الجحيم. كيف يمكن أن تُنسى صور الأطفال الذين ترتجف أطرافهم بلا سببٍ واضح، فليس هناك خدشٌ على وجوههم، ولا قطرة دم تسيل منهم. فهذا موتٌ داهمهم بأسلحةٍ تأخذ شكل الهواء الذي لا شكل له. لا مفاجآت بعد في الموت السوري المتروك على غارب القتلة المعروفين بالاسم، والقتلة المجهولين، لكن الجميع يعرفون الذين يحرّكون بلطاتهم وأحزمتهم الناسفة. كل أشكال الموت في سورية ممكنة ومتوقعة. لأن ليس هناك من يحاسب. وليس هناك من يحصي. وحتى العدَّ فقد قيمته التوثيقية. تعدُّ لمن؟ ومن أجل ماذا؟ لقد عرف القتلة أن لا شيء من تكنولوجيا الرصد والتوثيق والتسجيل تخيفهم، أو تجعلهم، في الأقل، يرعوون قليلاً. ليس هناك سببٌ لذلك. هذه الأقمار الصناعية والكاميرات المحمولة في كل جيب لا قيمة لها. أرسلوا الصور إلى من شئتم. اصنعوا مجموعاتٍ على "فيسبوك" و"إنستغرام" و"تويتر" و"واتس آب". سلّوا أنفسكم. اشتغلوا. لازم أن يشتغل المرء. انشطوا وانضموا إلى قوى وأحزاب. ليس سيئاً، فهذا دليل على نياتكم الطيبة ومشاعركم الإنسانية، وربما الوطنية. لكن كل هذا لا قيمة له. يرفع رجلٌ يتكلم الروسية يده في قاعة مجلس الأمن، معترضاً، فتسقط الملفات والأرقام والمعطيات والدماء والدموع والأعضاء المبتورة والردم الخرافي. كأنه يقول لكل ألم، لكل قطرة دم، لكل دمعةٍ، لكل العمائر التي سقطت على رؤوس سكانها: طزّ.
لماذا إذن نندّد ونستنكر ونمرّغ الوجوه بالأرض، وننوح على القتلى والغرقى والمهجّرين والمحاصرين والمقتلَعين من بيوتهم، ما دام كل هذا لا يُذهب عنا الشعور بالذنب والتقصير، ناهيك عن وضع الوحوش في الأقفاص؟ هكذا تمحو المجزرة الجديدة المجزرة القديمة، ويتساوى الموتى في التراب، بعدما تفقد الأسماء والوجوه والمنابت اعتبارها. لم نفرغ من البكاء (وهذا أقصى ما تقدر عليه نياتنا الطيبة) على موتى خان شيخون، حتى وقعت مجزرة حي الراشدين. يخطئ من يفكِّر أن الوجوه والأسماء تعني شيئاً للبرميل أو الحزام الناسف، فالوجوه والأسماء واللهجات لا تعني شيئاً لمن يدوس بجزمته على كل القيم التي قد تخطر في بالنا. هذا ما تعنيه مجزرة مهجّري كفريا والفوعة. ما الفرق بين أشلاء الذين مزّقهم انفجار "الراشدين" والوجوه التي لم تنبت فيها شعرة واحدة في خان شيخون، ممدّدة، كما لو في نوم، على النقالات؟ الموت ليس واحداً في التكتيكات الخبيثة، منزوعة الضمير، ولكنه واحد أمام الحلقة المفقودة في صراعات القوة: الأخلاق. من هو الذي يجعل الموت حراماً هنا وحلالاً هناك؟ أيّ فكرة؟ أيّ دين؟ أيّ مشروع سياسي؟ كيف يعبر هذا الموت الحدود والحواجز من دون مساءلةٍ أو شك؟ كيف نفرّق بين دم ودم؟ لا يمكن للموتى أن ترقد عظامهم مطمئنةً في قبورهم، إلا إذا تساوت دماؤهم بصرف النظر عن فصيلتها. يصعب أن أصف لكم حجم الغضب الذي اعتصرني، وأنا أرى الأشلاء معلقة في شبابيك الحافلات، وعلى الأرض التي تبقّعت بالدم. ولكن، متى يتحوّل هذا الغضب، الذي لا بد أنه اعترى كثيرين، إلى منعطفٍ في هذه الكارثة التي أتت على الأخضر واليابس؟
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن