الحمرا... لبناننا الآتي

الحمرا... لبناننا الآتي

04 مارس 2017

مشهد من شارع الحمرا في بيروت (Getty)

+ الخط -
حين كنت صغيراً، كان الحديث أمامي عن منطقة الحمرا في وسط بيروت أمراً مشوّقاً. المتحدثون يسكنون ذاكرتهم لحظات، مستعيدين في بالهم "لبنان الجميل". في غياب الصورة، سواء عبر الإعلام المرئي أو المقروء، باتت الحمرا في بالي منطقةً ساحرة، رسمتها بخيال طفلٍ قُضي عليه أن يسكن أيام حرب لبنان (1975ـ 1990)، في بيروت الشرقية، زمن "البيروتتين"، والتي لم تكن الحمرا في حيّزها الجغرافي، ولم يكن وارداً زيارتها خلال تلك الحرب، مع ما يعنيه ذلك من تخطٍ لحواجز المليشيات على المعابر في الجهتين. في البال، تحوّلت المنطقة إلى "جنّة" نموذجية تُشكّل مزيجاً من شوارع نيويورك وسان فرانسيسكو الأميركيتين، اللتين أعرفهما جيداً بحكم مشاهدتي المسلسلات الأميركية على شاشة تلفزيون لبنان الرسمي.
بقيت الحمرا مكانا مجهولاً ومرغوباً، أطمح لزيارته، ولم أكن أدري متى يُمكن فعل ذلك، ولا حتى كيفية الوصول إليها. حاولت استكشاف ذلك، حتى لاحت ما وصفتها "فرصة". تحدث أصدقاء أمامي عن زيارة المنطقة. لم أتردّد لحظة، متخلياً عن فكرة "شوارع نيويورك وسان فرانسيسكو"، لا لشيء سوى لأن "الواقعية تقتضي". أردت فقط أن أكون مثل ماركو بولو في رحلة عبور. كان الوقت ليلاً، وكان الأمر جميلاً. "وصلنا" قالها صديق. نزلنا. تصرف بعض رفاقي بتلقائية، بينما كنت ميالاً إلى استعادة الأحاديث التي سمعتها في طفولتي، وربطها بالمواقع الجغرافية. هنا الفندق الفلاني، وهنا كان المقهى الذي لم يعد موجوداً. كانت زيارةً خاطفة، لم تشبع ما كنت أريده.
لاحقاً، تتالت زياراتي تلك المنطقة. فيها وجدت "لبنان" الذي أريده. لبنان الذي تعيش فيه جميع الطوائف والقوميات والأعراق، وفقاً لمنظومةٍ اجتماعية، لا طوائفية أو مذهبية. منطقة تحوي كنائس وجوامع، لكن المعابد ليست سبباً لخلافات مذهبية أو دينية. هناك، يُمكن أن تناقش سياسياً وتجادل فلسفياً، ثم تنصرف إلى شرب كأس في مكان ما. المسألة مرتبطة أساساً بهوية خاصةٍ بالحمرا، لا أحد ينكرها، والجميع يريدها في قرارة نفسه. هويةٌ عن ضجيج دائم، وعرس لا ينتهي، في منطقةٍ تجمع كل المتناقضات اللبنانية وغير اللبنانية. الحمرا أقرب إلى نموذج تورونتو الكندية أو لندن الإنكليزية، لكنها أكثر عروبيةً ومشرقية.
وكلما خرجت من الحمرا عاد السؤال الأزلي: "لم لا يتفق اللبنانيون؟"، لأنهم تعلّقوا بقشورٍ اعتبروها جوهراً، تحديداً المتعلقة بما يُمكن وصفها "مكاسب طائفية أو مناطقية أو سياسية"، بينما الجوهر يكمن أساساً في ما يجب أن يحصلوا عليه من حقوق: حياة خالية من العِقَد الطوائفية والمذهبية والاجتماعية. حياة تضع كل المكاسب المناطقية والسياسية في المستوى الثاني من قائمة الأولويات الذاتية، وتجعل من الأهداف الاجتماعية هدفاً مركزياً لكل فردٍ على امتداد الـ10452 كيلومتراً مربّعاً.
إذا كانت الحمرا، كما هي الحال عليه، مقصداً أو محطةً مرغوبة لكثيرين، فيجب أن يتعمّم نموذجها في كل مكان من لبنان. لا لشيء سوى لأنها الصورة الحقيقية التي تعبّر عن دواخل كل إنسان. ليست الحمرا ملهىً معينّاً أو مكاناً محددّاً، بل نموذجاً يبحث عنه كل إنسانٍ، يريد التخلّص من تراكماتٍ موروثةٍ منذ ما قبل استقلال البلاد، خصوصاً المرتبطة بأسباب الحرب وتداعياتها وإفرازاتها. الحمرا ليست مقصداً سياحياً، بل أكثر من ذلك: نمط حياة تتناغم مع فكرة التنوّع في لبنان، على الرغم من الدجل الذي يسود في أثناء إطلاق شعاراتٍ أو حملاتٍ دعائية عن العيش المشترك والوحدة الوطنية. يُمكن لنموذج الحمرا ضرب كل تلك الأكاذيب، عبر ترك الناس تحيا كما تشاء، ومن دون ارتباطٍ بقشورٍ خادعةٍ، تهدف إلى ترسيخ الانقسام الأبدي، بين أفراد شعب يقيم على بقعة صغيرة للغاية في شرق المتوسط. إذا كان هناك من فكرةٍ لبناء دولة جديدة، قائمة على أسس المواطنة، فالحمرا هي النموذج الأنقى للبنان آتٍ.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".