لبنان.. تمارين على الطائفية

لبنان.. تمارين على الطائفية

26 فبراير 2017
+ الخط -
يحتاج الأمر في لبنان، بين الفينة والأخرى، إطلاقَ أبناء الطائفة إلى الساحات، أو إلى زاويةٍ ما على ناصية شارع، للهتاف ذوداً عن زعيم طائفي، أو إلى تقديسه والطائفة، من أجل شدِّ أزر أبناء الطائفة الآخرين الذين قد تسوِّل لهم أنفسهم، في وقت الراحة، التفكيرَ في التغريد خارج سرب الطائفية، وتحقيقاً للهدف الأسمى، تلميعَ وجهِ الزعيم، إن علاه الغبار من قلَّة الحوادثِ الجِسام. وهو ما حصل حين هاجم أنصار حركة أمل اللبنانية مبنى قناة تلفزيون الجديد، هاتفينَ ذوداً عن زعيم حركتهم الحالي، في حين أن برنامجاً، بثَّته المحطة، قيل إنه تناول زعيمها السابق بشكل غير لائق.
وجاء هجوم أنصار حركة أمل بعد يومين من بث القناة المذكورة حلقةً من برنامجها السياسي الفكاهي "دمى كراسي"، في 12 فبراير/ شباط الحالي، والذي جُسدت فيه شخصيات الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، ورئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس حركة أمل، نبيه بري، والرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي الذي اتهمه بري باختطاف الزعيم الشيعي، موسى الصَّدر، مع اثنين من مرافقيه وإخفائهم في أثناء زيارتهم ليبيا سنة 1978. كما استضاف البرنامج النائب السابق في البرلمان اللبناني، حسن يعقوب، نجل محمد يعقوب، الذي كان والصحافي عباس بدر الدين رفقة الصدر حين اختفى. وإذ تتناول الحلقة موضوع اختفاء الصدر ومُرافقيه، ويتحدث فيها يعقوب عن بعض حيثيات القضية، ينحصر دور الدّمية التي تجسّد بري في التعليق على الحديث، مع بروز سؤال نطقت به الدمية التي تجسّد القذافي، والذي يرد بها عنه تهمة الاختطاف، قائلاً إن السيد بري يعرف ذلك، ويسأله: "هل خطفتهم أنا يا سيد بري؟". ثم يقول لبري: "أتحداك أن تقول إنك لا تعرف أين المكان الذي يوجد فيه الإمام الصَّدر". ويعقِّب النائب يعقوب على كلام القذافي إنه، طوال فترة تغييبهم، أصبح غير خافٍ عن الرأي العام أنه لم يكن هنالك عمل جَدّي لمعرفة مصيرهم، وكل ما يجري من كلام ومهرجانات تطالب بمعرفة مصيرهم كانت ذات طابع انتخابي. ولعل سؤال القذافي وكلامه الموجَّه لبري وإقرار يعقوب هي الأسباب الخفية وراء هجوم أنصار بري على القناة، فهي تكرّس ما يقال همساً عن دور لبري ومصلحة له في اختفاء الصَّدر.
والمستغرب هو كيف انتظر أنصار حركة أمل يومين، قبل أن يقرّروا مهاجمة القناة، حيث لم
تدفعهم الحَميَّة إلى مهاجمتها، بعد بث الحلقة مباشرة أو في اليوم التالي، على أبعد تقدير. إنه الأمر الذي يشير إلى تدبير الهجوم وتنظيمه ورسم خطته، وعدد المشاركين فيه، ونوع الشعارات التي ستطلق، وغيرها من الأمور التكتيكية. ومع أن حركة أمل أبلغت إحدى المحطات التلفزيونية أنها لم تتخذ قراراً بالاعتصام أمام مبنى القناة، واصفةً الهجوم أنه رد فعل شعبي وعفوي، إلا أن هذا الكلام يشير إلى عدم وجود سلطةٍ لها على مناصريها، وهو ما ينفيه تراجع المهاجمين المفاجئ، وانسحابهم بعد ساعات من محيط المبنى، فيما بدا أنه تلبيةً لأمرٍ تلقوه من أحدٍ ما.
وفي إطار الرد على المهاجمين وادعاءاتهم، قال مسؤولو القناة، ومقدّم البرنامج، إن الحلقة المذكورة لم تسئ للصَّدر، وهي متاحة على "يوتيوب" لمن يريد أن يشاهدها ويتبيّن الأمر، لكن ذلك لا يقنع المهاجمين ومن يقف خلفهم. كما أن ذلك لا يشفع لهم ويمنع مهاجمتهم، حيث أن بيئة البلاد الأمنية والطائفية تسمح بهجماتٍ من هذا القبيل، وتمنع تحركات مطلبية، وتنقضُّ عليها، كما حصل حين استهدف الأمن اللبناني مظاهرات حركة "طلعت ريحتكن" أواخر سنة 2015. يومها انضم إلى الأمن اللبناني مهاجمون، تبيّن أنهم من أنصار بري، وانقضّوا على رموز الحراك، وضربوهم على مرأى من القوى الأمنية التي تأتمر بأمر زعماء الطوائف الذين يكوّنون السلطة اللبنانية. وكما لم يجرِ توقيف أي من المعتدين يومها، كذلك لم يجرِ توقيف أيٍّ من الذين اعتدوا على مبنى قناة الجديد، ورشقوه بالحجارة والزجاجات الحارقة وكسروا واجهات دار الفارابي للنشر ومقهى إذاعة صوت الشعب اللتين تتشاركان المبنى وقناة الجديد، على الرغم من وجود القوى الأمنية وعناصر الجيش اللبناني الذين قدموا لحماية المبنى من المهاجمين، من دون ردعهم.
من غير المعلوم إن كان المهاجمون قد وجدوا في كلام رئيس بلادهم، ميشال عون، في القاهرة بشأن شرعية سلاح حزب الله، قبل يوم من هجومهم، ما يعطيهم الضوء الأخضر لشن
هجومهم. لكن، من المؤكد أنهم يعرفون بأمر غياب الدولة ووهن أجهزتها، إن تعلق الأمر بفلتان عناصر طائفية، لا ترى رادعاً لها، إن قرّرت استباحة البلاد. ألم يلوِّح نبيه بري، مرةً، بحربٍ أهلية إن انتخب عون رئيساً؟ كان برّي يومها معارضاً ترشيح عون، ولم يمنعه وجود أنصار ومحازبين كثر لعون من التهديد بتلك الحرب. بل ربما دفعه وجود محازبين له في إطلاق تهديده، كون وقودها، من الطرفين، جاهزٌ للاشتعال إن أمر الزعيم. ربما لم يعرف عون أبعاد كلامه بشأن شرعية سلاح حزب الله، والحاجة إليه بسبب عجز الجيش اللبناني عن الدفاع عن البلاد في وجه إسرائيل، حسب ادّعائه، فهو بذلك يبتُّ في مسألةٍ خلافيةٍ، قسمت اللبنانيين سنواتٍ، ويتخلى عن مطلب قوننة هذا السلاح في إطار الدولة، منعاً لفلتانه أو استخدامه خارج حدود البلاد، جالباً المشكلات الكثيرة لأهلها. وقد كانت أولى ثمرات كلام عون الهجوم على "الجديد"، قام به عارفون إنهم أسياد الشارع، بفعل قوتهم وسلاحهم المُشَرعَن خارج إطار الدولة، وهو ربما ما منع القوى الأمنية اعتقال أحدٍ منهم.
يبيّن الهجوم على قناة الجديد، وإفلات المهاجمين من العقاب، لا بل سماح القوى الأمنية التي كانت حاضرة لهم بالتمادي في هجومهم واستخدام المواد الحارقة وإلحاق الأضرار بمؤسساتٍ وأملاكٍ خاصة، يبيّن أن الدولة ما زالت بعيدةً عن الوجود مقابل قوى الطوائف. ويبين أيضاً أن ما حصل مجرّد تمرين طائفي، لأبناء طائفة، ترى هي، أو أي طائفة أخرى، في زعيمها ما هو أهم من البلاد، وأهم من أمنها الذي قد تجرّه نكتة سياسة إلى أتونِ حربٍ، جمراتها قابعة دوماً تحت الرماد.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.