لماذا يكرهون أوروبا ويحبون إسرائيل؟

لماذا يكرهون أوروبا ويحبون إسرائيل؟

18 فبراير 2017
+ الخط -
هناك ظاهرة محيّرة في تيار اليمين المتطرّف الجديد الصاعد في أوروبا والغرب، والذي كان من ثماره رئاسة دونالد ترامب في أميركا وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ذلك أن هذا التيار المتميز بكراهية المسلمين والأقليات الدينية والعرقية في الغرب، وهي سمة مميزة لليمين المتطرّف في الأساس، يختلف عن أسلافه في أنه لا يظهر كراهيةً لليهود وعداءً للسامية. بل بالعكس، هناك محبّة وتوله بإسرائيل في أوساط هذا التيار، وهو مستغرَبٌ في جماعاتٍ ما تزال تستخدم التحيّة الهتلرية والصليب المعقوف بين رموزها. وتزداد الحيرة حين نلحظ أن هذا الجماعات تعادي الاتحاد الأوروبي، وتسعى إلى تفكيك أوروبا وإضعافها، على الرغم من تبنيها شعار "صراع الحضارات" الذي يصوّر هذه الجماعات بأنها خط الدفاع الأخير عن "الحضارة الأوروبية" ضد البربريات القادمة من الخارج. فكيف تتصالح هذه المتناقضات في فكر اليمين الجديد وممارساته؟
تكتسب هذه التناقضات أهميةً إضافيةً لكون بعض المفكرين والأكاديميين الموالين لإسرائيل طفقوا، خلال الأعوام الماضية، يروجون اليمين الجديد باعتباره ذا طبيعة "ثقافية" وهوى "أوروبي". وبحسب أحد هؤلاء، فإن معاداة السامية ظاهرةٌ برزت في نهايات القرن التاسع عشر، وارتبطت بالدفاع عن القوميات الإثنية. أما الإسلاموفوبيا، فقد ظهرت في العقود الأخيرة، تزامناً مع بروز الهوية القارّية الأوروبية. وعليه، فإن الأولى ذات طبيعة إثنية "عنصرية"، هدفها الدفاع عن "النقاء العرقي" للدولة القومية، بينما الثانية ذات طبيعة "حضارية" ثقافية، وهدفها الدفاع عن الهوية الثقافية الأوروبية ضد ما تراه تهديداً "إسلامياً". وقد تصاعدت، في الآونة الأخيرة، محاولات اليمين الموالي لإسرائيل لـ "تبييض" العنصرية اليمينية باعتبارها توجساً مشروعاً من "الإرهاب الإسلامي"، باعتبار الإسلام أيديولوجيا وليس ديناً.
على هذه الخلفية، يثير العداء المكشوف من العنصريين الجدد لأوروبا والكيان الأوروبي، وما يمثله من قيم أصبحت محل إجماع في الغرب (مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتجارة
الحرة)، أسئلة مهمة حول طبيعة هذه الظاهرة. ويكتسب الأمر أهميةً أكبر، حين نلحظ عداء ترامب وشيعته لأوروبا والاتحاد الأوروبي، وتعاطفهم مع الفاشية اليمينية الجديدة، بما فيها الفاشية الروسية التي يمثلها فلاديمير بوتين. وهذه مسألة أخرى تستدعي الانتباه، إذ إن المعروف في اليمين المتطرّف، بكل أطيافه، العداء لروسيا والدول التي تتعارض مصالحها مع مصالح أميركا. إلا أن ترامب وفلول اليمين المتطرّف الأوروبي يبدون في حالة توله بالدكتاتور الروسي، وحالة "اقتراض" للأموال منه. بل رشحت معلومات، أخيراً، عن تعامل مباشر لأعضاء حملة ترامب مع المخابرات الروسية في وقتٍ كانت تتآمر فيه على أميركا، وتتدخل في عمليتها الانتخابية. وكانت مثل هذه "الخيانة" تكفي لجعل الدم يغلي في عروق أي متطرّف يميني. ولكن، ليس هناك أي دليل على أن أنصار ترامب منزعجون من هذا الاستخذاء لروسيا وقيصرها.
يشير هذا كله إلى حقيقة محورية في هذه التيارات الجديدة، هو أنها تياراتٌ معاديةٌ للغرب وقيمه ومؤسساته وتراثه، لأن هوسها بما تراه "خطراً إسلامياً" جعلها مستعدّة للتخلي عن كل قيمةٍ أخرى، بما في ذلك عداوتها التقليدية لليهود وروسيا، حتى تواجه ذلك الخطر المزعوم. بل إلى درجة التنكّر لقيم الغرب وشن الحرب على مؤسساته وأعمدة بنيانه، من أجل تحقيق الأهداف قصيرة المدى، ومن أبرزها تدمير البنية التحتية لليبرالية الغربية، فقد رأينا كيف استخفّ ترامب بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وكيف تمنى تصدّع الاتحاد الأوروبي، وهي مؤسساتٌ تمثل أركان الدفاع عن الغرب. ويذكّرنا هذا بالحادثة الشهيرة لذلك المتطرّف النرويجي الذي أعمل القتل في شباب الحزب اليساري الحاكم هناك في يوليو/ تموز عام 2011، بحجة أن النخبة اليسارية هي التي فتحت أبواب أوروبا للمسلمين، ولا بد من "إبادتها" لإنقاذ أوروبا. وقد أعطى ذلك الإرهابي، في رسالةٍ نشرها على الإنترنت قبيل عمليته، من سماهم "الماركسيين الثقافيين" (وهو يعني النخبة الليبرالية في أوروبا) مهلة للتوبة والانضمام إليه في حملة لوقف هجرة المسلمين إلى أوروبا، وطرد من وصل منهم، وإلا فإن الإبادة ستكون مصيرهم كما قال، فالرجل لم يقتل مسلماً واحداً، وإنما صبّ جام إرهابه على الليبراليين المحليين.
هناك مركّب آخر في خطاب هذه الجماعات الصاعدة، وهو تحالفها الموضوعي مع إسرائيل
التي سبق صعود اليمين الشعبوي فيها نظيره في الغرب. ويأتي ذلك من أن جل من تولى ترويج فكرة صراع الحضارات وتأجيج الإسلاموفوبيا كان من المفكرين الموالين لإسرائيل، وفي مقدمتهم برنارد لويس وأرنست غلنر وصمويل هنتنغتون وشيعتهم. وقد تبعهم في هذا طائفة من "اليساريين" المنقلبين على يساريتهم، من أمثال بول بيرمان وكريستوفر هيتشنز وتوني بلير. والغرض من ترويج هذه المقولة واضح، وهو نشر الاعتقاد أن الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلاتٍ لحل الصراع في فلسطين لن يجدي نفعاً، لأن الصراع حضاري، يعود إلى لاعقلانية العرب والمسلمين. وعليه، لا بد من "حرب باردةٍ جديدة"، هدفها القضاء على جذور "الإرهاب الإسلامي"، وما هو إلا رأس جبل الجليد في العداء الإسلامي الكامن للغرب، بسبب نجاحه وليبراليته، وليس بسبب غزوه بلاد المسلمين ودعم الدكتاتوريات فيها.
المفارقة أن هذا "الهوس" بما سمّي الإرهاب الإسلامي جعل هذه الحركات الشعبوية الجديدة تتنكّر بدورها للعقلانية الغربية المتمثلة في المؤسسات الأكاديمية والبيروقراطية، وحتى الاستخباراتية التي تعادي هذا الهوس. وعليه، أصبحت هذه الحركات تستهدف هذه الأركان للدول الغربية، بحيث أصبحت تشكل خطراً وتهديداً لأوروبا والغرب أكبر بكثير من تهديد التنظيمات الإسلامية المتطرفة التي يتذرع بها ترامب وشيعته. بل إن صعود هذه الحركات يحقق أهداف تلك التنظيمات المتطرفة عبر القيام نيابة عنها بتدمير أميركا وأوروبا من الداخل بحجة حمايتهما من التطرّف الإسلامي، فينقلب السحر على الساحر.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي