في صناعة "الفلسطيني" وغزّة التي تُحاصرهم وتحاصرنا

في صناعة "الفلسطيني" وغزّة التي تُحاصرهم... وتحاصرنا

14 أكتوبر 2023
+ الخط -

سؤالٌ طرحتُه، بل طرح نفسَه، في ذلك الصباح السبتي المشرق المدلهم، المثير الصادم، الواعد المخيف: كيف تحمل غزّة المعذّبة، المجوّعة، المقطّعة، المنسيّة، المحاصَرة من بين يديها ومن خلفها، ومن فوقها ومن تحتها، ومن الأخ قبل العدو، كيف تحمل (وَتُحَمَّل) كل هذا العبء الثقيل، عن كل العرب وعن كل المؤمنين وكل الأحرار وكل البشر؟

لماذا يتوجب، على مليونين من المنسيين، تتجافاهم العواصم، وتتقاذفهم الحدود والسواحل، ويجفوهم الدواء والكهرباء، ويتمنّع عن غشيانهم الماء والغذاء، لماذا عليهم الذود عن كرامة العرب، والموت دون أديان المؤمنين، والفناء دون إنسانية البشر؟ وكما قلت، في بداية هذه الدورة من الصراع، كيف يتوارى ملايين العرب، في بلادٍ تعجّ بجيوشٍ تسدّ الأفق، مسلّحة حتى الأسنان، كيف يتوارون في المنازلة مع إسرائيل، خلف أضعف كيانات المنطقة، وأكثرها حرماناً؟

لماذا استبشر نصف العالمين في ذلك الصباح الحارق المضيء، المظلم المكفهرّ، بهبّة غزّة، كما لو أن المسيح العائد قد هبط من السماء بصحبة المهدي المنتظر وعزير والملائكة المقرّبين وكل الصالحين، ليحقّ الحقّ ويُبطل الباطل؟ ولماذا فزع آخرون كما لو أنه قد أزفت الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة؟ لماذا سيّرت الأساطيل وحشدت الجيوش وقامت قيامة الكثيرين، وأصبحت كل شاشة تلفازٍ مناحةً على نهاية الأخلاق، وفجيعة ظلم ("استبداد" عند نتنياهو الذي لا يستحي) عمّ الكون، وفضيحة الإذلال والقمع المُؤذن بخراب العمران ونهاية الدنيا؟

لماذا أصبحت غزّة عند بعضهم المنقذ الأخير لعالم عربيٍّ سقط في حمأة الطغيان والانحطاط والاستسلام والهزيمة، وتحوّلت إلى مركز العالم، ومنبع الحياة وسدرة المنتهى؟ ولماذا تمثّلت عند آخرين مركز الشر، ومكمن أكبر خطرٍ يتهدّد الحضارة والإنسانية، وبقاء إسرائيل، واجتياح أميركا والغرب، وفتح أبواب الجحيم؟ لماذا أصبح الإسرائيليون ورهطهم أكثر قناعةً، حتى من "حماس"، بأن إسرائيل تحارب اليوم معركتها الأخيرة؟

ما يراه الراؤون في غزّة هو في عين الرائي ومن انعكاسات وتمثلات خياله وأوهامه. وبمعنى أدق، تمثّلات عجزه ويأسه. بل إن الرائي هو الصانع لما رأى، فعلاً حينما شارك في صناعة الأوضاع، وهوساً وهلوسةً عندما نظر وقدّر، ثم عبس وبسّر وأدبر واستكبر.

عاشت إسرائيل أقسى كوابيسها حين تحوّلت مؤقتاً إلى "فلسطين"، أو "غزّة" في ضعفها وهشاشتها، وانقلبت الغطرسة إلى هلع وعجز وصدمة

العرب هم من صنعوا "الفدائي الفلسطيني" المناضل لستر عورة الجيوش العربية المهزومة، التي نكصت عن تحرير فلسطين، والتهت بقمع العرب عن مقارعة العدو. ومعه صنعوا "القضية الفلسطينية" التي وقع المناضلون في فخّها، عندما أصبحوا ينادون بأن تصبح منظمة التحرير المسؤول الأول والأخير عن تحرير فلسطين. وفي الحقيقة، لا توجد قضية فلسطينية، كما أنه لم توجد قضية "سود" في جنوب أفريقيا أو في أميركا العنصرية. هناك قضية فصل عنصري، وقضية عنصرية وتمييز، وهناك قضية استعمار استيطاني. صحيحٌ أن لضحايا كل عمل إجرامي الحق والدور الأهم في النضال ضده. ولكن عندما تكون هناك طائرة مختطفة، فليس ركابها هم المسؤولون عن القبض على المختطف وإنقاذها، وإنما الجهات الأمنية.

وقد فهم العرب هذا، حين تسابقت الجيوش العربية لتحرير فلسطين، ولكنهم نكصوا على أعقابهم حينما تخلّوا عن القضية، وسلّموها إلى فصائل فلسطينية متقاتلة، لم تُعط مساحة لتتحرّك فيها، بل كان الأخ العربي من ورائها باطشاً ومخذلاً وقامعاً، والعدو من أمامها مدعوماً بمن خلفها. ثم تطوّع الإسرائيليون وأنصارهم في الغرب بصناعة "الفلسطيني الإرهابي"، الذي أصبح عُذراً وذريعة للغربيين، ثم الأعراب، للتنصّل من أي مسؤولية تجاه ضحايا التطهير العرقي والفصل العنصري بضمير مرتاح، فالضحية هي المجرم الأكبر. وعندما "تابت" المنظمة من كل "إرهاب"، ووقّعت اتفاقية أوسلو، وجد القوم أعذاراً أخرى.

وهنا صنعت "غزّة"، كجماع آثام ومخاوف وفظائع مجرمي العرب والعجم. صارت هي "الدولة الفلسطينية" التي يجمع العالم، عربُه قبل أغرابه، على حصارها ومقاطعتها، وحرمانها من كل شيء، ثم في الوقت نفسه على تحميلها كامل المسؤولية عن أمن الفلسطينيين وسلامتهم ومعاشهم فيها. وبعد تخلي المنظمة عن كل مسؤولية تجاه فلسطينيي غزّة، كما عن مسؤولية سياسية وأمنية عن فلسطينيي الضفة، ساد الشعور بأنه لم تعُد هناك قوّة خارج غزّة قادرة على التصدّي للقمع الإسرائيلي، واقتلاع الفلسطينيين، وخطف المسجد الأقصى، وعموماً إذلال العرب. وهكذا احتفل المحرومون العطشى لأي نصر بهبّة إخوان سبارتاكوس ليثأروا لكل مقهور طريد، وهتفوا بحياة سكّان القبور الذين منحوا الحياة لكل الآخرين.

أصبحت غزّة البقعة التي التقى فيها عجزُ العرب ولا إنسانية عالمنا والانحدار الإسرائيلي إلى حضيض الحضيض في العنصرية والتطرّف

عاشت إسرائيل أقسى كوابيسها حين تحوّلت مؤقتاً إلى "فلسطين"، أو "غزّة" في ضعفها وهشاشتها، وانقلبت الغطرسة إلى هلع وعجز وصدمة. وهكذا تحول بنيامين نتنياهو لأول مرة إلى داعية لحقوق المستضعفين، يدين الفظاعات، ويوزّع الصور، ويذرف الدموع، قبل أن يُبرز أسنان دراكولا للولوغ في دماء أطفال فلسطين (مرّة أخرى). هنا تصبح غزّة أشبه بـ "بوابة الجحيم" في بعض مسلسلات الخيال العلمي الأميركية، التي ينفذ منها المردة والكائنات الوحشية لتفتك بالبشر، فيتصدّى لها الأبطال من ذوي القوى الخارقة. غزّة في هذه الخرافة الجديدة هي الحادي عشر من سبتمبر، وبيرل هاربر. وتساعد هذه الأساطير، كما في أسطورة "الفلسطيني الإرهابي"، الفاشيين الإسرائيليين، وأنصارهم من كبار مجرمي العجم والعرب، على تجريد فلسطينيي غزّة من كل إنسانية، والتخلّي عن كل التزام أخلاقي تجاههم، فهم "حيواناتٌ بشرية"، فيجوز قتل المدني والمقاتل، والمسلح والأعزل، والطفل والمرأة، بدون أدنى تأنيب ضمير، أو أي مسؤوليةٍ جنائيةٍ أو أخلاقية، فالفلسطيني أصبح اليوم هو "منبوذ" جورجيو أغامبين (homo sacer)، ذلك الشخص الأسطوري في التراث الروماني، الذي يجوز قتله بدون أي تبعة.

أصحبت غزّة، إذن، البقعة التي التقى فيها عجزُ العرب ولا إنسانية عالمنا والانحدار الإسرائيلي إلى حضيض الحضيض في العنصرية والتطرّف. تجسّد فيها كذلك جماع مخاوف الغاصبين والمستبدّين، مع آمال المحبطين ومطامع الطامعين ووحشية المتوحشين. وقد أصبحت المكان الذي اختاره نتنياهو، أسوأ حاكم لأبشع دولة، موقعاً لانتحاره السياسي المجلجل، وسقوط إسرائيل الأخير. هذه المّرة، لبس الفاشست قناع الحمل الوديع، وتحوّل سكان غزّة المقهورة إلى هتلر والاستبداد الذي يهدّد بن غفير وغيرَه من المستضعفين، وتم التخلي عن كل وازع أخلاقي، وكل ما يمليه العقل. ربما نكون بالفعل أمام معركة "مجدّو" الأخيرة (Armageddon) في بعض السرديات الإنجيلية، التي يميز الله فيها الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعضٍ فيركمه في جهنم. في نهاية هذا السباق إلى قاع الوحشية، سيصبح نتنياهو المنبوذ الذي لا حُرمة له. ولعله لن يكون الوحيد الذي يبتلعه "فم الجحيم"، ففيه متّسعٌ لغيره من المتسابقين نحو الدرك الأسفل من النار. وقد جاء في القرآن الكريم: "يوم نقول لجهنّم هل امتلأت فتقول هل من مزيد؟".

يتزيّا المنافقون بأفضل هندامهم، ثم يخرجون على شاشة التلفزيون، ليعبّروا عن شفقتهم على جنود إبليس المساكين، كونهم كانوا في ملابسهم الداخلية عندما جاءهم الهجوم البربري فجعل منهم مدنيين أبرياء مثل ربّات الرجال.

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي